كل الأرض منفى.. حين يصبح الوطن حلماً بعيداً!
Admin 20 فبراير، 2025 115

أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
• لطالما كانت الموسيقى والشعر مرآةً تعكس واقع الشعوب وتعبر عن مشاعرهم العميقة، وعندما يلتقي الإبداع الفني بالتجربة الإنسانية المؤلمة، يولد عمل خالد يبقى صداه متجدداً مع الزمن. أغنية “قلت أرحل”، التي كتب كلماتها الشاعر التجاني سعيد ولحّنها وغنّاها الموسيقار الراحل محمد وردي، لم تكن مجرد قصيدة عن الحب والفراق، بل أصبحت اليوم انعكاسًا لواقع ملايين السودانيين الذين أجبرتهم الحرب على مغادرة ديارهم، ليجدوا أنفسهم في رحلة نزوح قسرية، حيث لا وطن يحتضنهم، ولا منفى يريحهم.
الوطن المفقود.. حين تصبح الأرض كلها منفى
“قلت أرحل.. أسوق خطواتي من زولاً نسى الإلفة.. أهوّم ليل.. أساهر ليل.. أتوه من مرفأ لي مرفأ..”
كأن هذه الكلمات كُتبت اليوم، لا عن فراق الحبيب فقط، بل عن فراق الوطن ذاته. منذ اندلاع الحرب الأخيرة، تحوّل السودان إلى ساحة معارك لا تفرّق بين جندي ومدني، بين طفل وعجوز، بين بيت آمن وشارع مزدحم. آلاف القرى والمدن احترقت، وأُجبر أهلها على الرحيل، لا بحثًا عن حياة جديدة، بل هربًا من موت محقق.
لم يعد للسودانيين اليوم وطن يأويهم، ولا مدينة تمنحهم الأمن. أصبحوا يتنقلون من مكان إلى آخر، من دولة إلى أخرى، تمامًا كما تصف الأغنية:
“أبدّل ريد بعد ريدك.. عشان يمكن يكون أوفى..”
لكن، كما لم يجد الحبيب في الأغنية بديلًا لحبيبته، لم يجد السودانيون بديلًا لوطنهم. كل مكان يحمل اسمًا جديدًا، لكن لا يحمل الإحساس ذاته، ولا يمنحهم ذلك الشعور الدافئ بالانتماء.
الغربة داخل الوطن.. والغربة خارجه
“رحلت و جيت.. في بعدك لقيت.. كل الأرض منفى..”
هذه الجملة التي تكررت في الأغنية، باتت اليوم شعار السودانيين في الداخل والخارج. فمن بقي داخل السودان يشعر بأنه غريب في وطنه، فقد تغيرت ملامح المدن، اختفى الأمن، وانطفأت الأضواء التي كانت تضيء الشوارع ليلًا. أما الذين غادروا، فهم يعيشون في منفى لا نهاية له، يتنقلون بين الدول، يحملون أوراق لجوء مؤقتة، ويبحثون عن مكان يحتضنهم.
لم يعد السودان كما كان، ولم تعد خارجه الأماكن كما تخيلوها. في كل خطوة هناك شعور بالضياع، وكأن الحياة توقفت في اللحظة التي غادروا فيها الوطن، أو كما قال الشاعر:
“بدون عينيكِ بصبح زول.. بدون ذكرى و بدون ميلاد..”
الأعياد بلا وطن.. والفرح الذي يعبر سريعًا
“وزي عيدًا غشاني وفات.. وعاد عمّ البلد أعياد..”

العيد في الأغنية كان لحظة فرح عابرة، تأتي ثم تختفي، كما يختفي الحلم قبل أن يتحقق. واليوم، يشعر السودانيون بهذا الإحساس أكثر من أي وقت مضى. تمر الأعياد عليهم وهم بعيدون عن أهلهم، عن منازلهم، عن الأماكن التي اعتادوا أن يجتمعوا فيها، فلا يجدون في الاحتفالات طعمًا، ولا في اللقاءات الدفء الذي كان.
في المنافي، قد تأتي لحظات من الفرح، لكنها لا تدوم. كل ضحكة يقطعها سؤال: متى نعود؟ هل سنعود؟ كيف أصبح حال من بقوا؟ حتى الأفراح البسيطة باتت مثقلة بالحزن والأسئلة التي لا إجابة لها.
الزمن الذي لا يعالج الجراح
“زمان الفرقة والتجريح بسيبه.. بسيبه عشان تشيله الريح..”
لكن، هل الزمن حقًا قادر على محو ما حدث؟ هل يمكن لهذه الأيام السوداء أن تصبح مجرد ذكرى عابرة؟ النازحون الذين فقدوا أحباءهم، الذين تركوا بيوتهم ورأوا كيف تحولت مدنهم إلى أنقاض، يدركون أن هناك جراحًا لا تندمل. فحتى لو عادوا، فلن يكون الوطن كما كان، ولن يكونوا هم كما كانوا.
“أصل العمر شوقًا كان.. وصبرًا كان.. وحزنًا كان.. فسيح و فسيح..”
السودانيون اليوم يعيشون بين الشوق والصبر والحزن. الشوق إلى وطنهم، الصبر على ما أصابهم، والحزن على ما فقدوه. يعيشون حياتهم وهم يحاولون التمسك بالأمل، لكنهم في أعماقهم يشعرون أن الطريق طويل، وأن العودة ليست قريبة.
حين يصبح الوطن حلماً بعيدًا
“و كان غرسًا سقيته بكاء.. وقبضتّ الريح..”
هذا البيت يختصر حال أجيال كاملة من السودانيين. الذين حلموا بوطن مزدهر، فزرعوا فيه الحب والعمل، لكنهم وجدوا أنفسهم في النهاية أمام واقع قاسٍ، حيث كل ما بنوه تبخر، وكل ما حلموا به تبدد، ولم يتبقَّ لهم سوى الذكريات.
لكن، رغم كل ذلك، يبقى الأمل. فالسودان ليس فقط أرضًا، بل هو ذاكرة، وهوية، وروح تسكن القلوب. قد يكون الوطن اليوم مجرد حلم بعيد، لكنه لم يمت، ولم تنطفئ جذوته في قلوب أبنائه.
“كل الأرض منفى.. كل الأرض منفى..”
لكن المنافي لا تدوم، والليل مهما طال لا بد أن يعقبه فجر. والسودانيون، الذين عاشوا المحن وصمدوا، قادرون يومًا ما على كسر هذا النفي، واستعادة وطنهم، مهما طال الغياب.
لكن رغم كل الألم، تبقى هناك بارقة أمل. فالتاريخ أثبت أن الشعوب التي مرت بالمحن قادرة على النهوض من جديد، والسودانيون ليسوا استثناءً. قد يكون اليوم مظلمًا، وقد يكون الوطن بعيدًا كالحلم، لكن طالما بقيت القلوب تنبض بحبه، فإن الغد قد يحمل فجرًا جديدًا، وعودةً، ولو بعد حين.
في النهاية، ربما تكون “قلت أرحل” اليوم أغنية النازحين، لكنها أيضًا أغنية الصامدين، أولئك الذين، رغم كل شيء، لا يزالون يؤمنون بأن كل المنافي ستظل مؤقتة، وأن الوطن، مهما ابتعد، سيظل يومًا ما هو الوجهة الأخيرة.
هل هناك ميلاد جديد؟
السؤال الأهم: هل هناك مستقبل بعد هذا الضياع؟ هل سيأتي يوم يعود فيه السودانيون إلى بلادهم ليعيدوا بناء ما تهدم؟ هل يمكن للهوية أن تُستعاد، وللذكرى أن تُبعث من جديد؟
ربما، كما في الأغنية، يبقى الأمل معلقًا على احتمالية أن تنتهي هذه المحنة، وأن يجد السودانيون ميلادًا جديدًا، ليس فقط في الأوطان التي نزحوا إليها، ولكن في وطنهم الحقيقي، عندما يستعيد حريته وأمنه وسلامه.
لكن حتى ذلك الحين، سيظل الكثيرون يشعرون أنهم مجرد أشباح تتحرك في مدن الغربة، بلا وطن واضح، بلا ذكرى مؤكدة، وبلا ميلاد حقيقي.
شارك المقال