
عمر حسن غلام الله
قاص وكاتب صحفي
• شئ آخر يجعلني أدمن هذا المكان، وهو عدم سماح أمي لي باللعب مع الأطفال عند البحر، فلا تريد أن يأخذني البحر كما أخذ أبي من قبل، لذلك كانت دائمة التحذير لي من السباحة في النيل أو حتى اللعب بقربه، لذا كنت الجأ الى هذا المكان..
ولكني لست وحدي من يأتي إليه، فهناك حامد الدرويش الذي ما إن يراني قادماً الى القوز حتى يتركه مسرعاً وهو ينظر إليّ نظرات غامضة لم أستطع فهمها.. أخبرت يوماً أمي بذلك وسألتها عن حامد هذا فلم تجبني.. وعندما ألححت عليها أجابتني باقتضاب بأنه (كان في صباهو داير ليهو بت.. لكن تزوجها غيره) فأصبح هكذا هائماً على وجهه.
وفجأة سألت أمي عن أبي ولا أدري لماذا سألتها عقب سؤالي عن حامد، شعرت بها قد ارتبكت قليلاً ثم استعادت هدوئها فحكت لي باقتضاب أيضاً وبصوت بدأ عادياً ثم أضحى متهدجاً أنه بعد زواجها به بأسابيع قليلة ذهب يسبح في النيل ولم يعد، وقد وُجِدَتْ ملابسه على ضفة النهر، ولم تظهر جثته على طول النهر حتى ديار الضناقله، لكنهم فرشوا وتلقوا العزاء على إعتبار أنه قد يكون خطفه تمساح.
حين بردت الشمس مارست هوايتي بإلقاء نفسي من أعلى القوز من جهته التي تشبه الهاوية متدحرجاً الى الأرض في وضع جسدي أفقياً (أي في وضع الرقود)، ثم أصعد مرة أخرى عبر الجهة الأخرى المتدرجة الملساء الى قمته ثم أكرر إلقاء نفسي من علٍ.. وهكذا..
في أثناء لعبي حصرني البول، فأردت إفراغ مثانتي في جانب من القوز إلا أنني لم أستطع ذلك.. وتذكرت لحظتها أنني منذ عدة سنوات أردت إفراغ ما في مثانتي على نفس القوز، فانحبس الماء ولم يخرج فابتعدت عن القوز قليلاً فسارت الأمور على ما يرام، فكررت المحاولة بعيداً عن القوز ولم أجد صعوبة في شئ..
هذه الحالة تكررت الآن، ولم أجد لها أي تفسير، فلم يكن قربي أي بشر حتى أشعر بالخجل الذي يمكن أن يسبب ذلك، ثم لماذا في القوز بالذات وبعيداً عنه يتم كل شئ بصورة طبيعية؟ المهم واصلت لعبي، وأثناء ذلك أحسست بشيء ما مغروس في القوز تعثرت فيه، فحسبته نبتة صحراوية أو فرع شجرة يابس أو شئ من هذا القبيل..
وبعد عدة مرات من التعثر فيه دفعني حب الاستطلاع لمعرفة كنهه، فكشفت الرمل عنه، وبدأ يتكشف عن يد آدمية..
كاد أن يغمى عليّ من شدة المفاجأة، إلا أن الخوف دفعني لإطلاق ساقيّ للريح تجاه البلد، وما إن وصلت أول البيوت حتى بدأت في الصياح (ألحقوني…) ولما انتبه الناس لصياحي وخرجوا لمعرفة الخطب كنت قد ولجت دار جدي ودلفت الى دكانه.. ولم أستطع الكلام أول الأمر لهول ما رأيت ولكون أنفاسي لاهثة من الجري..
وعندما علم جدي مني بما رأيت، كان أهل القرية الذين كانوا فيها في هذه اللحظة قد تجمعوا في دكان جدي فعرفوا منه بالذي حدث، وتوجهوا جميعهم نحو قوز مربى، وبدأوا في نبش رفات الجثة..
وأثناء ذلك كان حامد الدرويش يبكي بعصبية، ولم نستغرب بكاؤه على ميت مجهول الهوية، فهو – أي حامد- درويش لا يلتفت إلى تصرفاته أحد.. لكن حينما تم إخراج الرفات من تحت الرمال بكى الدرويش حتى أغمي عليه، وحين أُفيق كان يردد (عبد الفضيل، عبد الفضيل)، وهذا اسم والدي، وهنا انتبه الناس له وسألوه ماذا يعني، فقال لهم وهو يشير الى الرفات، هذا عبد الفضيل.
روى حامد الدرويش كيف أنه كان يهوى صالحه وأنه اتفق معها على الزواج، إلا أن ابن عمها تزوجها حسب التقاليد، فهو أولى (بتغطية قدحه)، فاستدعاه حامد ليلتقيا في القوز، وهناك بدأ يوبخه على فعلته تلك خاصة أنه يعلم أنهما- حامد وصالحه- يحبان بعضهما،
واحتد النقاش بينهما وتطور الى تشابك بالأيدي، وفجأة وضع عبد الفضيل يده على صدره مكان القلب وشهق ثم خرّ الى الأرض. وهنا انتاب حامد خوف شديد ورفع عبد الفضيل عن الأرض فوجده قد اصبح جثة هامدة..
لم يدر ما يفعل، ولا كيف يتصرف، لن يصدقه الناس إن قال لهم أنه مات هكذا، سيتهمونه بقتله، جلس مذهولاً لساعة من الزمن، ثم تسارعت الأحداث بعد ذلك، خلع ملابس الجثة ودفن الجثة تحت رمال القوز، وفي المساء عاد الى القوز وأخذ الملابس ووضعها عند حافة النهر.
ولما لم يعد عبد الفضيل الى بيته حتى ساعة متأخرة بحثوا عنه في كل مكان حتى وجدوا ملابسه هناك، فظنوا أنه مات غرقاً. ومن بعدها لم يتحمل حامد ما حدث بسببه فساءت حالته النفسية وأصبح هائماً على وجهه.
أعيد مأتم أبي بعد ستة عشر عاماً من وفاته، لم يتخذ أي إجراء ضد حامد، بل تم دفن الرفات في المقابر دون أن يخطروا المركز في مروي، بناء على اتفاق رجال القرية وجدي.
لم أحس تجاه حامد إلا بالشفقة، وفهمت الآن مغزى تلك النظرات الغامضة التي كان ينظر بها إليّ، ومعنى وقوفه تجاه القوز في أحيان كثيرة وهروبه عندما يراني هناك.. والغريب أنه بعد هذا اليوم- يوم اكتشاف الرفات- صار حامد إنساناً عادياً.
شارك المقال