
بابكر الوسيلة
الإهداء : إلي روح عيسي الحلو
• سمعنا طرقا علي باب الحوش ،خفيفا .. نحن الصغار الذين كنا نلعب تحت شجرة الليمون الظليلة منتصف الحوش . تسابقنا نحو الباب كعادتنا . كانت إمرأة عجوز يفوق عمرها المائة بالتأكيد ، تلبس ثوبا أبيض ،نظيفا ،وتحمل علي كتفها مخلاية صغيرة . كان فمها لا يحمل أسنانا لذا حين قالت لنا :جيبوا لي موية . لم نتبين كلامها بالضبط لكننا رغم ذلك تسابقنا نحو الزير الرابض علي حافة الراكوبة طرف الحوش .قالت لنا حاجة علوية أمنا : منو الفي الباب ؟ صرخنا بفم واحد : حبوبة . قالت لنا : دعوها تدخل . قلنا لها :تفضلي يا حبوبة إتفضلي .سكبت كوز الماء علي جوفها كأن لم تشرب زمنا ثم أخذت في الدخول .كانت عيوننا جميعا تحدق في حركتها البطيئة نحو الداخل ،تتوكأ علي عصا أشبه بشعبة الراكوبة الموجودة بالداخل ، عصا كبيرة أطول منها بقليل ، بيضاء . توقف عالمنا فجأة ونحن نراقب حركة هذه المرأة العجوز ، جسدها النحيل ، تجاعيد وجهها ، عينيها الجميلتين الكبيرتين ، كعيني أنثي بالغة الشباب تتطلع بغزارة شبقة نحو رجل . حين رأتها أمنا ، رأينا أسارير الفرح تخرج من وجهها وتضيء . قالت لها :أهلا يا أمي .. إتفضلي . أمسكتها من يدها اليسري قبلتها بإحترام بالغ بعد أن أحنت رأسها عليها ، كمن يقبل يد سيده لدي المسيد . أجلستها بتوؤدة علي العنقريب منتصف الراكوبة . كان شاي الظهيرة المعتاد جاهزا .لذا كان أول ما قدمته أمنا لها هو كوب شاي ساخن وضعته في صينية صغيرة علي طربيزة صغيرة أمامها . لم تنتظر العجوز أن يستقر كوب الشاي قليلا . أخذته بلهفة غريبة إلي فمها الواسع الرقيق كفم صبية قبلت للتو . ثم وضعته فارغا تماما علي الطربيزة . قالت بصوت مليء بالنشوة :شكر الله الصانع وهنيئا للشارب . كان الوقت ظهيرة حارقة والشمس بسيوفها تحارب . اليوم هو الجمعة . لم تسألها أمنا عن وجهتها أبدا بل لم تسألها عن شيء البتة .كانت العجوز تتمتم بتعاويذ كأنها تسبح الله أو شيء من هذا القبيل ،وهي ترقد علي صفحتها اليمني علي ذلك العنقريب ذي الحبال المبللة بماء الزير ، وكانت تحت رأسها واحدة من المخدات التي كانت تصنعها أمنا من ثيابها القديمة .
بدأ صوت الأذان الأخير لصلاة الجمعة في المناداة . نهضت العجوز وحيث حاولت أمنا وضع رجليها علي مركوبها البني المتسخ الجلدي إنتهرتها بلطف وأدخلت رجليها في مركوبها ببطء ، لكن بثقة عزيزة . تناولت عصاها وأمسكت بها ونهضت بطريقة فيها كثير من الكبرياء والإيمان ، وقبل أن تبادرها أمنا بالسؤال قالت :
خلاس ، ماشه علي الجامع ،باقي الصلاه جات .
طلبت منها أمنا أن تعود إلي البيت فور الإنتهاء من الصلاة . لعل أمي أحست بأشياء لايمكن تفسيرها تجاه هذه العجوز ، وكنا نحن المراقبين للمشهد كله في عظيم الفرح بطلب أمنا للعجوز بالعودة . نحن أيضا صرنا مسحورين بشيء لم نعرف له سرا أبدا ، تجاه تلك العجوز المضيئة .
حين عادت بعد صلاة الجمعة كان كل شيء معدا لها . عنقريبها المبلل ، ماء الزير البارد ،ملاح الويكة ،الكسرة البيضاء ، فرش الأرواح التي إستقبلت العجوز وكأنها عروسة موجت ساكن أيامنا بزغاريد عالم جديد .
دخلت هذه المرة دون أن تطرق باب الحوش ، جلست علي عنقريبها وصاحت لنا بالماء ، كأنها خيط نسيج قديم موجود أصلا بيننا ومنشبك في علاقات ذكرياتنا الخاصة .أحضرنا لها الماء وحكت لنا عن الخلق الذين جاءوا لصلاة الجمعة :
البلد دي جابت الناس ديل من وين ؟ كتار ومساخ وقباح .. تب عليهم .. والخطيب .. يعني المسلمين ديل مالقوا زول غيرو إخطب فينا ويقول الله قال والرسول قال بدل ما يكلمنا عن الحرب . مالنا ومال الحرب ، نحن يا يما أولادنا ماتوا فطيس ساي .
قالت لها أمنا :
ما تقولي كده يا أمي ، ناس الحكومة راقدين في البلد لو سمعوا كلامك ده بسجنوك .
قالت :النصيحة بقولها والموت واحد ، لكن دي حكومة شنو البتخت ليها عجوز زيي كده في السجن ، سجم خشم الحكومة كان كده .. والنصيحة بقولها لي بكره
إستطابت أمنا لكلامها ، ويبدو أن طريقتها في الكلام فتحت روح أمنا في الإسترسال معها بالونسة :
أها والخطيب مالو يا أمي ؟
ظنيتو من ناس الحكومة بتاعتك دي .. قال الناس إمشوا الحرب الناس إخلوا الحياه دي ويمشوا للموت .ده خطيب شنو البقول للناس إمشوا للموت بدل ما إدعوا لي سلام الله والرسول ؟ أس والله إن ما الصلاة صلاة جمعة ما كنت مرقت من بيتنا وجيت بي توبي ومركوبي العاجبني ده سمعت السجم ده .
ضحكت أمنا ضحكة لم نسمعها تضحكها منذ وقت طويل ،وضحكنا نحن الصغار الذين لم نفهم من كلامها شيئا ، ضحكنا كأننا أمواج نهر صغير شق ظهيرة تلك الجمعة وبلل ساعتها الساخنة بفرح غامر . لم نستدرك تماما حقيقته الماثلة أمامنا .
أحضرت أمنا الطعام ، وضعته أمام العجوز وتحلقنا حولها نحن وأمنا وإخوتنا الكبار الثلاثة الذين عادوا من مزارعهم في طرف البلدة وجاء أبي مبتسما في وحه العجوز ، لعله كان يسمع حديثها لأمنا وهو يرقد في الديوان المقابل للراكوبة التي ترقد فيها العجوز مع أمنا . كان أبي يفهم في الدين ويفهم في السياسة الكثير ،لكنه لم يكن يفهمنا نحن في كثير من عالمنا الصغير . أحضرت له أمنا كرسيه الخاص . صرنا بوجود هذه العجوز كمن يتحلقون في حلقة ذكر . طعم ورائحة لم نتنسمها منذ وقت طويل ،وكانت العجوز تضيء هذه الحلقة وكأنها رسول أرسل لنا للتو . فها هي الحياة تمنحنا وجها ذكيا ولسانا حكيما وأرضا جديدة ذات خضرة وسماء لاحد لها من الآفاق . حين همت العجوز بالمغادرة ، رجتها أمنا أن تأتي كل جمعة قبل الصلاة للبيت . لم تزد العجوز عن شكرا ، كلمة أخري .
حملت جسدها النحيل علي عصاها وحملت مخلايتها علي كتفها ،فتحنا لها نحن الصغار باب الحوش وخرجت ، كنا نراقبها بكل أجسادنا نحن الصغار علي باب الحوش إلي أن إختفت عن أنظارنا لكنها تركت ومضا علي عيوننا حيث إستدرنا إلي داخل البيت .لم يسأل أحد منا من هي ، ما هو إسمها ، من اين جاءت ؟
لكننا كنا كمن نعرف عنها كل ذكرياتها التي ستتركها وتمضي .
مع تعاقب الوقت ،صارت تلك العجوز تأتي كل جمعة إلي بيتنا وكنا نحن الصغار ننتظر مجيئها بفارغ صبر كثيف اللهفة لثوبها الأبيض ومخلايتها الصغيرة وعصاها الذي يسند خطوتها في دروب هذه الحياة . صارت جزءا من حركة العالم في بيتنا ، حزءا أصيلا في النسيج الكلي لحياة البيت حتي أنها كانت تحدد لأمنا نوعية الطعام الذي يجب طبخه لنا وكانت تقدم نقدا لاذعا لطريقتنا الخشنة في اللعب
وكانت تنتهرنا ونحن نستسلم تماما لصراخها في أوجهنا . غابت أمنا عن البيت في أحد أيام الجمع وتركت حلة الطعام علي النار حتي إحترقت تماما . حينما عادت أمنا صرخت في وجهها :
يا هاملة مشيتي وين خليتي أكلك للنار ؟
إستقبلت أمنا هذه العبارة بمحبة كبيرة لإمرأة تجاوز عمرها المائة وصارت تحمل نفسا مشتركا في روح البيت . قالت لها إنها لن تكرر ما فعلته مرة أخري ،وبدأت أمنا في إعداد طعام آخر لنا .
حبوبة الجمعة لم تأت هذه الجمعة ،لم يسمها أحد منا بعينه هذا الإسم (حبوبة الجمعة ) ولا يعرف أحد منا كيف ومتي صرنا نناديها ب : حبوبة الجمعة ، الزمن وحده من كتب علي صفحته البيضاء هذا الإسم ، خرج من بين الأرواح والذكريات والصلوات التي كانت تؤديها تلك العجوز كل جمعة وهي تجعل بيتنا مطرحا لمشاويرها الكثيرات نحو الله .
لم تأت حبوبة الجمعة هذه الجمعة . قلنا لا بد من السؤال عنها وعن سبب غيابها . لم نكن نعرف لها أهلا ولا بيتا ولا ناحية . قال أحدنا يبدو أنها من ( حلة عرب ) ، في الطريق الشمالي للبلدة . أحضرنا عربتين إمتلأتا عن آخرهما . ركبنا نحن الصغار وركب معنا صغار الحلة . ركبت أمنا وركب أبونا وإخوتنا الثلاثة . ركبت الجارات اللواتي تعرفن عليها من خلال جلسات أمنا معها تحت ظهيرات الرواكيب ، كانت تعد لهن القهوة وتعد لهن أيضا الكثير من القصص في عالم لا يعرفنه إلا النساء وحدهن .تحركت بنا العربتان تجاه الشمال وعلي تخوم ( حلة عرب ) كانت القيزان ترتفع وتنخفض . رأينا نحن الصغار النهر لأول مرة في حياتنا ، نهر صغير أشبه بالنهر الذي في مخيلتنا من حكايا أمنا . رأينا أشجار الصفصاف والأحجار الملونة طرف النهر رأينا الصيادين وشممنا رائحة شيء أسميناها بعد تقدم العمر:/ بالأبدية . رأينا الشمس تجلس لحظات علي رأسش الجبل في الطرف الآخر للنهر وتغمس نفسها في الأفق رأينا الشفق قريبا لأيدينا شيء يمكن ملامسته ومداعبته . عالم جديد تكون فجأة بين أنظارنا والعربتان تهبطان وتصعدان في فضاءات ( حلة عرب ) إلي أن وصلنا بعد أن سأل الكبار عن حبوبة الجمعة : ولأنهم كانوا لا يعرفون لها إسما كانوا يرشدون عليها بأوصافها . حيث قال أبونا لأحد المارة بأنها عجوز . سمعنا أحد إخوتنا الكبار يقول كمن يهمس : لا إنها شابة ، جميلة ، قوية ،إنها مناضلة . كان لأخينا ذلك لغة غير التي نتكلم بها وكان له أصحاب يقول عنهم أبي أنهم صعاليك بينما كانت تقول عنهم أمنا : أولاد السرور ، وكنا نسمع من خلال أحاديثهم الجماعية كلمات لا نعرف لها معني : مثل البرجوازية ، الطبقة ، كلمات لم تفضل بذاكرتنا لأننا سمعناها في زمن طفولي ليس إلا .
توقفت العربتان أمام بيت حبوبة الجمعة . كان عددنا يفوق الثلاثين بقليل وكان مشهدنا علي ما يبدو أمام حوش حبوبة الجمعة يثير إستغراب جميع أهل ( حلة عرب ) توافد الناس علينا النساء، الرجال ، الأطفال . موكب ضخم صار فجأة في حوش حبوبة الجمعة .أحضروا الماء والتمر واللبن من أثداء أبقارهم وما عزهم . كانت حبوبة الجمعة ترقد علي عنقريب داخل قطية صغيرة علي الجانب الشرقي للبيت . كانت مخلايتها معلقة علي شعبة من شعب القطية ، وكانت عصاها علي جانب العنقريب . كانت تغطي نفسها بثوبها الأبيض ذلك ، وكانت أمامها طربيزة صغيرة حديدية خضراء عليها كوب كبير وتحتها إبريق أخضر . حين رأتنا جميعا تمتمت بكلمات لم نفهمها أبدا ، كان فمها الواسع جميلا ما زال ، رقيقا رغم مرضها وكانت عيناها الكبيرتان أكثر جمالا من ذي قبل . أكلنا ثمرها وشربنا ماءها ولبنها بينما كان أبي يقرأ آيات مكن القرآن علي رأسها . قضينا معها وقتا إنسحب فجأة من مدار الزمن ليهدينا أجمل روح يغطي الآن هذه اللحظة من لحظات الكون . الكون الكبير للقلب الإنساني العامر ، حين خرجنا من عندها لم نودعها ولم تودعنا . كان الجميع في الصمت يغرقون غير أن أمنا قالت لها : الجمعة الجاية يا أمي .. إنشاء الله .. الله يقدرك .. نحن راجنك
كانت الشمس قد غابت تماما ونحن نخرج من عند حبوبة الجمعة ، ركبنا العربتين صاعدين وهابطين إلي بيتنا ،وفي جوفنا سؤال أضنانا كثيرا : كيف تقطع حبوبة الجمعة كل هذه المسافات بعد ثلاثة أيام ، ثلاثة أيام فقط وفي صباح الجمعة التي كنا ننتظر فيها حبوبة الجمعة تأتي إلي بيتنا . كانت السماء كأنها إنشقت وثمة صوت يملأ الأرض كلها ، صوت يزمجر في أنحاء الكون : حبوبة الجمعة.
شارك القصة