قصة قصيرة : (الحرب) للكاتب الإيطالي لويجي بيراندللو

39
ايطالي
Picture of ترجمها عن الإنجليزية  د. عز الدين ميرغني

ترجمها عن الإنجليزية د. عز الدين ميرغني

• المسافرون الذين غادروا ( روما ) , بقطار الليل السريع , القطار يتوقف عند الفجر في محطة صغيرة تدعي ( قابريانو ) , ثم يواصلون رحلتهم بخط فرعي آخر حتى مدينة ( سيلومونا ) في نفس الزمن دون توقف . في عربة من عربات الدرجة الثانية لهذا القطار , تلك العربة ذات الهواء الفاسد والرطوبة الزائدة , تحمل بداخلها خمسة أشخاص , قضوا فيها تلك الليلة . بينهم امرأة بدينة , ترتدي ملابس الحداد الحزينة . تبدو في جلستها كشمعة واقفة حزينة وذات ضوء خافت . بجانبها زوجها , يخن أحياناً , وهو يزفر بحرقة , ويئن أنيناً خافتاً . نحيف الجسم , دقيق الملامح والتكوين . وجه شاحب , كشحوب الموتى . عيناه صغيرتان , زائغتان . يبدو خجولاً منزعجاً , في محاولته لتثبيت ياقة معطفه . بأدب يلتفت إلي زوجته , وهو يقول لها باهتمام بالغ : (هل أنت بخير يا عزيزتي ؟ ) وفي نفس الوقت يشكر المسافرين الذين أفسحوا لها مكاناً لتجلس . زوجته حاولت أن تشد ياقة معطفها , حتى تغطي وجهها , في محاولة الإجابة على سؤال زوجها عن حالها . قال الزوج بصوت خفيض : عالم قبيح , قالها وفي فمه ابتسامة حزينة , وكان في نفس الوقت يريد أن يشرح للمسافرين , أن هذه المرأة صامتة وحزينة , لأن ابنها قد ذهب إلي جبهة الحرب . ابنها الوحيد ذو العشرين عاماً . ذلك الابن , الذين نذروا حياتهم له , لقد باعوا منزلهم في ( سيلومونا ) , لكي يعيشوا معه في ( روما ) وليواصل فيها دراسته . سمحوا له ليتطوع ستة أشهر , دون أن يذهب إلي جبهة القتال . تسلموا برقية منه يقول فيها : بأنه سيغادر بعد ثلاثة أيام , طالباً منهم الحضور ليودعهم . 

المرأة كانت تتلوى وتئن  داخل سترتها الكبيرة , كحيوان جريح مفترس . كانت تظن أن عرض الزوج لحالتها , يمكن أن تثير عطف الكثير من الجالسين . وقد يكون من بينهم , من يشابه حالتها . قال أحدهم وهو يبدو أكثرهم انتباهاً لها , ولحالتها , { أشكري الله لأن ابنك ذاهب الآن إلي جبهة القتال , فأنا ابني ذهب إلي هناك منذ بداية الحرب , وقد جرح في القتال , وعند شفائه ذهب مرة أخرى  إلي ذلك الجحيم . . فجأة تكلم أحد المسافرين وهو يقول :  ماذا عني أنا , والذي له ولدان يقاتلان الآن في جبهة القتال , زائداً , أبناء الإخوة والأخوات ؟  . رد عليه زوج المرأة الحزينة :  ولكنه يا أخي , هو ابننا الوحيد } . قالها بنبرة حزينة وهو يكاد يختنق . رد عليه : ما الفرق , إن الإبن الوحيد يفسده التدليل , إنكم لا يمكن أن تحبونه , أكثر لو كان لديكم غيره . واصل الرجل وهو يقول : إن العاطفة الأبوية ليس كالخبز , نقسمه بالتساوي للأطفال , فالأب يعطي الحب لكل واحد من أطفاله دون تمييز , لو كانوا واحداً أو كانوا عشرة . فأنا أعاني معاناة مزدوجة . 

حقاً , حقاً , تنهد الزوج المرتبك وهو يقول :  أتمنى أن لا يكون هذا منطبقاً على حالتك .وأنا أضرب هذا المثل . لو أن هنالك أباً له ولدان يقاتلان في الجبهة , وفقد واحداً منهم في الحرب , فسيبقى له واحد يخفف عنه , ويواسيه …جاوبه الآخر .. نعم , نعم , سيبقى له واحد يعزيه , قال له والد الابن الوحيد : ولكن . . في حالة الابن الواحد , فلو مات , فإن والده قطعاً سيرحل من الدنيا بعده سريعاً , وسيضع نهاية لمأساته . ألا ترى يا سيدي بأن مأساتي أكبر من مأساتك ؟ فاحتمال أن يعيش ويحيا لك واحد منهما , جد كبير , وهو احتمال نسبته كبيرة . قاطعهم أحد المسافرين قائلاً : هراء .. هذا هراء .. كان رجل دين , ذو وجه محمر , عيناه زائغتان  , متورمتان , شاحب اللون , كان يلهث , ويبدو أنه ذو حيوية ونشاط زائدين , أكبر من طاقته , وجسده المترهل . استمر يردد في كلمته هذا هراء .. محاولاً أن يغطي أسنانه المفقودة . هراء .. هل نربي أبناءنا ونلدهم لمصلحتنا الخاصة والضيقة ؟ هل نلدهم لنستمتع بقربهم منا ؟ نظر إليه بقية المسافرين باستياء . المسافر الذي ذهب ابنيه منذ بداية الحرب , تنهد بعمق وهو يقول : أنت على حق , إن أطفالنا ليسوا لنا , إنهم للوطن . استاء الرجل البدين , والد الابن الوحيد , وهو يزفر بضيق شديد وغضب هل أيها السادة عندما نلد أطفالنا نفكر عند ولادتهم في الوطن ؟ هل نتزوج من أجل الوطن ؟ إن الأبناء يولدون , حسناً , لأن الطبيعة تمارس دورها ولأن الحياة يجب أن تستمر , ولكن بولادتهم تصير حياتنا أشد ارتباطاً بهم تكون ملكاً لهم . قال له الرجل والد الاثنين : هذه حقيقة , ولكن حياتهم ليست ملكاً لنا , فهم ليسوا تابعين لنا , فعند وصولهم سن العشرين ,  سيكونون كما كنا . كلنا كان لنا آباء وأمهات , ولكن كانت اهتماماتنا غير اهتماماتهم , اهتماماتهم ستكون البنات , والصداقة والمستقبل , وأيضاً الوطن عندما يناديهم فيجب أن يلبوا , حتى ولو قال الأب والأم لا . . والآن وفي عمرنا هذا ورغم انقضاء عمر الشباب , فما يزال حب الوطن في داخلنا عميقاً , أقوى من حبنا لأطفالنا , هل منكم يا سادتي , من لا يكون سعيداً , لو أن ابنه اتخذ مكانه الطبيعي مع الشباب في جبهة القتال ومن أجل الوطن ؟ فكل من يقاتل هناك له أب وله أم .. 

عم الصمت الجميع , والكل يهز رأسه موافقاً على ما يقوله  , قال الرجل وهو يواصل كلامه , لماذا لا نتقبل حماس أبنائنا وعاطفتهم وهم في سن العشرين ؟ أليس في منطقياً لشاب في مثل هذا العمر , أن يحب وطنه أنا هنا أعني  الشاب المحترم , حتى ولو كان حبه لوطنه أكبر من حبه لوالديه ؟ لو أن الوطن حقيقة وضرورة كالخبز, الذي يجب أن نأكله لكي نحيا , حتى لا نموت جوعاً , فيجب أن يذهب أحدنا للدفاع عنه . والأنسب هم الشباب في سن العشرين , إنهم لا يريدون دموعاً , لأنهم قد اختاروا طريقهم بسعادة وفرح أنا أتكلم عن الشباب الواعي المحترم , لنفترض أن أحداً مات شاباً سعيداً , دون أن يعيش الجاني التعيس والقبيح والمظلم , والمضجر في الحياة ؟ دون أن يدخل في أوهام المستقبل المجهول , فماذا نطلب منه وله ؟ يجب على كل واحد منا أن يضحي , كما فعلت أنا لأن ابني قبل أ، يموت في ميدان الحرب , أرسل لي رسالة يقول فيها :  يا أبي أنا الآن راضي وسعيد , وأنني سأموت كما تمنيت أن أموت  , لذا ترون أنني لا ارتدي على وفاته ملابس الحداد . قال ذلك وهو يشير إلي سترته الملونة اللامعة . 

كانت شفتاه وهو يحاول تغطية أسنانه الناقصة ترتجفان , وعيناه تلمعان بدون حركة , انتهى من حديثه ضاحكاً , ضحكاً أقرب للنشيج والحشرجة . أيد الجميع كلامه وهم يقولون له :  كلامك عين الصواب والحقيقة  . . . كانت المرأة التي تجلس صامتة في ركنها البعيد , والدة الابن الوحيد الذي ترك دراسته وطلب منهم وداعه  , تستمع بهدوء , والتي كانت تحاول منذ ثلاثة أشهر أن تجد في كلمات زوجها وأصدقائهم شيئاَ يعزيها , ويخفف حزنها العميق . شيئاً يبر لها كيف تقبل أم أن ترسل ابنها الوحيد ليس للموت فقط وإنما للخطر الذي لا مفر منه . لذلك كانت صامتة . لم تجد كلمة تقولها وسط هذا الجمع من المسافرين . ووسط هذا الحماس الوطني . لم تجد أحدا يشاركها حزنها العميق . لقد أذهلتها كلمات هذا المسافر , وأدركت بأن المسافرين ليسوا على خطأ وهم لا يشاركونها حزنها , ولا يقدرون صمتها . ولكنها هي التي لم تقدر وتتفهم من يرسل أبنائه للحرب برضائه وكامل قناعته . ويكون سعيداً حتى عندما يسمع بوفاة ابنه وقد يكون الوحيد . رفعت رأسها زحفت قليلاً من مكانها , وهي تحاول أن تسمع جيداً للحديث الدائر , وللرجل البدين وهو يسرد موت ابنه في الحرب بطلاً للواجب وللوطن . سعيداً وليس نادماً , بدأ أنها توقفت عند كلمة لم تكن من قبل تنتبه لها , كلمة لم تكن في قاموسها , كانت جد سعيدة وهي ترى رجلا يهنئه الجميع بموت ابنه وه يبتسم سعيداً , وصبوراً وشجاعاً . ويتحدث بحكمة عن التضحية من أجل الوطن . وفجأة كأنها لم تسمع أي كلمة أو تفاصيل عن هذا الموضوع , فجأة كأنها تستيقظ من حلم طويل , التفتت إلي الرجل العجوز , وهي تسأله قائلة : ولكن قل لي يا سيدي هل مات ابنك حقاً في تلك الحرب ؟ . اتجه الكل إلي تلك المرأة ينظر إليها , ومنه العجوز بعينيه المحمرتين , كان يحاول أن يرد على سؤالها , خذلته الكلمات , ووجم لسانه , كان يطيل النظر إليها , كأنه لأول مرة يسمع بوفاة ابنه الوحيد , حقيقة , مؤكدة , وأنه قد ذهب إلي الأبد ولن يعود أبداً . قطب وجهه , وتجهم , ثم فجأة أخرج منديله , وبدهشة الجميع انخرط في بكاء حزين.

 

شارك القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *