nafisa

نفيسة زين العابدين

قاصة وروائية وأستاذة جامعية بشيكاغو

• المكان مطار إحدى الدول الأوربية. 

الزمان الساعة الواحدة بعد منتصف الليل بتوقيت ساعة يدها. تجلس بضجر على إحدى طاولات مطعم للوجبات السريعة، وتسلى نفسها بتأمل أصابع البطاطا المقلية، وتنقى من بينها ما تأكله دون شهية، وتتأمل من خلف عويناتها الطبية من يجلسون على مرمى بصرها، حتى رأته. 

انتفضت بقوة وتسارعت دقات قلبها وصعد الدم إلى أذنيها فأحست بحرارة تسري في كل جسدها، وبحبيبات العرق تندى جبينها الأملس، وامتلأت عيناها بصورة الجالس على بعد بضع طاولات منها على اليمين. أغمضت جفنيها، ثم فتحتهما ونزعت نظارتها الطبية الشفافة، ونظفتها بيد مرتجفة، ثم أعادتها إلى مكانها تختبر ما رأت أهو حقيقة أم خيال، هل هو نفسه الرجل الوحيد الذي أحبت، أم فقط مجرد شبيه. ما لبثت أن أكد لها حدسها 

ونظرها أنه هو. 

كان يجلس وبيده صحيفة يقلب صفحاتها بيسراه بينما تمسك يمناه بكوب من القهوة. تأملته بحب، هو نفسه لم تغيره السنوات كثيرا، بل إن بعض الشعر الأبيض على فوديه زاده وقارا وجاذبية. سنواته التي تعدت الأربعين لا تعطيه إلا مزيدا من رجولة متمردة التفاصيل، نظاراته الطبية كما هي وكأنه لم يغيرها. مهلا …الأولى كانت عريضة العدسات، هذه عسلية اللون وصغيرة نوعا ما. 

ابتسمت لنفسها وهمست في أسى: (وهل يستطيع الاحتفاظ بنفس العوينات لمدة عشر سنوات؟) زفرت ببطء، وهي تكاد تبكي: (يا الله !!وكيف استطعت أنا الاحتفاظ به في قلبي كل هذا الوقت؟). 

عادت تتأمله خلسة وهي تحاول تهدئة دقات قلبها وأنفاسها المتسارعة. أرادت أن تزجر قلبها وتصرخ فيه أن كفى … كف عن الركض، تمهل أو توقف كغيرك. نظرت بأسى إلى ساقيها العاجزتين عن الحركة ومررت يدها بألم على عجلات الكرسي المتحرك، ثم لم تعد تجد لديها رصيدا من عزيمة يوقف نهر الدموع الذي فاض وأغرق وجنتيها. تظاهرت بأن شيئا سقط منها وانحنت تمسح دموعها ثم توصى نفسها بالجلد والتماسك على الأقل حتى لا تلفت 

انتباهه. 

أمسكت بكتاب كان في حقيبة يدها وتظاهرت بالقراءة واكتفت بمراقبته من خلف الأوراق. أرادت أن ترى يسراه.. هل يرتدى خاتم زواج أم ما زال أعزب، لكن يسراه كانت لا تظهر منها غير أطراف أصابعه الرشيقة. 

وجدت نفسها تراقبه وهو يرتشف القهوة وتتابع حركة شفتيه وارتعاش شاربه الأنيق فوقهما، ثم انزلقت عيناها عن وجهه إلى ملابسه. 

ابتسمت.. ما زال يعشق لون السماء حتى في ملابسه، قميصه الأنيق وربطة عنقه.. تنهدت بأسى وهي تنظر إلى طلاء أظافرها، كان يعشق هذا اللون عليها وكل هداياه كانت باللون الزهري الفاتح.. كان دوما يقول لها إنها زهرته اليانعة والتي لن تذبل أبدا. مطت شفتيها بضيق: (يا لك من كاذب مخادع.).. همست لنفسها بصوت مسموع.. ثم اعترتها رغبة قوية في أن تذهب إليه، أن تفاجئه، أن تخبره أنها ما زالت تحيا، تمارس الحياة.. تأكل وتشرب وتسافر وترتدى أفخم الملابس، لكنها تهتم بما ترتديه على نصف جسدها الأعلى أكثر، تهتم بشعرها.. بزينتها … بعقلها … لكنها لا تعيش الحب. 

تراجعت عندما تشبثت يداها بحديد كرسيها المتحرك، وتمنت بشدة لو أنها رافقت شقيقتها في جولتها التسوقية في صالات الأسواق الحرة المتناثرة حولها، ولو أنها لم تفضل انتظارها هنا في هذا المكان تحديدا. 

عادت تختلس النظرات إليه من جديد، لا يبدو أنه مهتم بمن حوله، ما زالت نظراته لا تغادر صفحات الصحيفة في يده إلى ما سواها، وما زال كوب القهوة أمامه. 

أخفت وجهها خلف ضفتي الكتاب عندما رأته يتناول منديلا ورقيا ويمسح فمه وشاربه ثم يهم بمغادرة الطاولة. مرة أخرى تسارعت دقات قلبها وشعرت بأن أنفاسها تغادرها مع كل خطوة يخطوها مبتعدا. أرادت أن تصرخ باسمه، أن تقل له عد، ارجع، لا تتركني مرة أخرى، أرجوك لا تذهب. لكنها لم تستطع أن تتفوه بشيء، لم تجد في نفسها الشجاعة بأن يراها هكذا. أن ترى عينيه تهبها بدل الأشواق إشفاقا، وبدل الحب حزنا. 

لقد كسر قلبها مرة وهي بكامل صحتها وجمالها. لن يكسره مرة أخرى وهي ضعيفة وهشة. (كلا).. همست بصوت متهدج وهي تتابعه مبتعدا دون أن يفطن لوجودها أو يشعر بأنفاسها أو حتى يخبره حدسه أن هناك عينان أليفتان تراقبانه. همست: (وداعا.. تصحبك السلامة.) 

ودفعت عجلات الكرسي باتجاه طاولته وهي تهمس بلطف إلى النادل الذي بدأ يجمع الصحيفة وبقايا قهوته: (أرجوك اترك كل شيء، فهو سيعود.). ابتسم لها النادل معتذرا ومضى … أمسكت بكوب القهوة الورقي وقربته إلى شفتيها وجمعت كل ما تستطع استنشاقه من الهواء حولها في شهيق يختلط برائحة المكان، ورائحة القهوة وبقايا أنفاسه عليها وأرسلته إلى رئتيها. 

شعرت بدوار ونشوي، ثم ارتشفت من بقايا قهوته الباردة وابتلعتها بصعوبة وهي تقاوم غصة عنيدة تسد حلقها، وطوت المنديل الورقي بعناية ووضعته في حقيبتها وكذلك الصحيفة، واستدارت بكرسيها متجهة إلى طاولتها ورأت شقيقتها أمامها تحمل الكثير من أكياس التسوق في يديها وهي تقول بسعادة: (لقد خسرت الكثير بعدم مرافقتك لي).. 

تحسست هي كوب القهوة في يدها وقربته إلى أنفها وتمتمت: (نعم خسرت.. خسرت الكثير منذ زمن بعيد).. واحتضنت ذاتها في دواخلها وأغمضت عينيها تاركة شقيقتها تدفع بالكرسي 

إلى حيث تريد.

 

شارك القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *