قصة قصيرة : أعراس في زمان مضى

227
مبارك الصادق2

مبارك الصادق - مدنى

• وكنت كمن أغمض … وبجناحين خفيفين طار وحلق … وكانت مشاعره نحوك مشبوبة كما المحلق … ثم نفذ إليك وأنت هناك في غفوتك الساجية .

تأمل وجهك وأنت تغطين في نومتك الهانئة ، وقد ارتسم ذلك الهدوء الرصين على الجبين .. وقبل أن ينسحب متراجعاً في تؤدة دون أن يوقظ إغفاءتك، نظر إلى كراستك السوداء وهي في الجوار .. والقلم في داخلها ينفتح على صفحة بيضاء كما الحليب .. الكراسة السوداء ، والورقة البيضاء .. والقلم الأزرق … لابد انك أردت أن تقولي لي شيئاً ؟؟ أعجزت عن القول ؟؟ أم داهمك النعاس وغشيتك أطياف الذكريات ؟؟جلساتنا الحلوة والأمنيات ؟؟

اليوم جاءتني رسالة منهم ، يطلبون إليّ أن أكمل إجراءات إرسال أمهم إليهم – لأنهم يشتاقونها.

وهكذا وكما ترين قد أستمرأوا إغترابهم الطويل – وما عادوا يقومون حتى بالزيارة القصيرة – الحمد لله إنني لست منهم .. فما أنا إلا تربال هذه الأرض..بل قنُ من أقنانها .. ملتصق بها كما القرادة في البعير (!) .

 هل يمكن لسمكة أن تعيش على اليابسة ؟؟ سمكة أنا ولها زعانف ! !

 يطلبون إليها العفو دائماً .. فترد بعفويتها الطيبة « أنا عافية منهم ربنا يحفظهم ويسترهم ..

وعندما أسألها : وأنا ؟؟ 

 أنت ؟؟ أنت العافية نفسها ! !

فأقول لها ممازحاً : العافية ؟؟ العافية زوجة الطاهر ضوينا ؟؟

فتضحك في سعادة حتى تبين فجوات أضراسها « العكروت ! ! «

أتمسح بها وبقدميها الصغيرتين – حيث الجنة –  ما أبدل قارونيتهم تلك بلحظة بلهنية وأنا أجالسها ومعها بنتها الأرملة وأبنائها يملؤن علينا البيت وهنّ ما يفتأن يحدثنني  – الأم وابنتها وبنتها – يحدثنني عن نفيسة مخطوبتي وأنا بالكاد ما أجد ما أنفقه سوى الكفاف – أخوة يوسف – يختزنون الرخاء القديم ما يدرون القحط الذي أصابنا – فيرسلون مبالغ لا تفي ولا تلبي الحد الأدنى من المطاليب … ورغم ذلك لا ينتظمون في الإرسال .

 وقد آليت على نفسي ألا أسألهم البته وهم في انشغالاتهم باستثماراتهم هنالك في المدينة الكبيرة.

هل يظنون أني فاقد الحيلة ؟؟ صحيح أني قطعت دراستي لأسباب هم يعلمونها .. ومع ذلك لست عاطلاً ،، ولا متبطلاً ؟؟ فأنا أمتهن ما هو متاح من خلال إجادتي للعديد من الحرف .. نجاراً إن أردت .. وبناءً إن وجدت .. ونقاشاً وسباكاً ، ولي قليل معرفة بنسج العناقريب .. وبناء الرواكيب .. وجلاد البلاستيك والأهم من ذلك كله أنا مزارع وفلاح . لا أقول سبع صنايع والبخت ضايع – فالحمد لله – مستورة ومرتاح البال – فليس ثمة ما هو أطيب للمرء من أن يأكل من كسب يده .. ولهذه يغبطونني أصحابي ، ربما يغيرون (فيقولون عني ياخي محمود ده بتاع كلو) ولا أدري أيمدحون؟؟ أم يقدحون ؟؟  

تحدثني نفيسة على الإتمام – وفي الوقت ذاته تحذرني ألا أنتظر أعطيتهم وأكاد أن أقول لها – لا توصي السمكة بالتدرب على السباحة ، وأمي لا تفتأ تزن في أذني « العيد ده – متيمنة ما تفوتو يا ولدي الدنيا ما معروفه ؟! «

وتواصل : عمارة يجيب الشنطة – الثياب دسته دسته .. والريح يجيب الريحة .. الصندل الغلاد  .. المحلب .. والضفرة والقرنفل والريحة اللينة الفرير دامور . ويحي يجيب حاجات العريس  .. شبشب الحنة والجلاليب والبدل والقمصان . 

أقاطعها وكمن يقرأ في المصحف وبصوت مرتل « ما أريد منهم من رزق ولا أريد أن يطعمون «

تقول أمي « يا ولدي الدم ما ببقى مويه  .. ديل أولاد أمك ! !»

أعرف ذلك ولكن مالاً لم يضربني فيه حجر دغش لا ينفعني ! !

 يا ولدي من الله خلق الدنيا – الناس بالناس .

لا يأمي : ما حكّ جسمك مثل ظفرك … أنت تعلمين أن ما يرسلونه أسلمك له كاملاً .. وانفق      جله بمعرفتك على أدويتك المستدامة ومطلوباتك والحمد لله ببركتكم ارزق ! ! 

    أرسلت نفيسة تطلب مقابلتي – ذهبت إليها وأنا أتوجس – هل وقعت الواقعة ؟؟ كان اللقاء كما العادة ، في منزل العازة – والعازة هذه تحبنا وتعزنا ، وتهيئ لنا اللقاءات البريئة ، في دارها الجميلة .. ونطلب إليها أن تبقى معنا لا تغادرنا – فليس ثمة أسرار بيننا  ، ولكنها لمّاحة ، تشغل نفسها بأعداد الشاي مرة ، وإحضار الماء أخرى وتناقش مع جارتها عبر النفاج صرفة الصندوق القادمة ولمن تعطى – تاركة لنا الأجواء حرة كما نشتهي ؟؟؟ قالت لي جاء ابن خالتي يتأبط شنطه .. يظن أن ذلك يدير رأسي ، وإن كان قد أفلح في إدارة رأس خالته حين بدأ يحدثها عن الحج والعمرة ، ويحدثها عن الغد المرتجى ؟؟ وأنا لست معنية بأحاديثه التي لا أطيقها ولا أطيقه … عموماً تعلم أني لا أريد منك شيئ – ولكن تقدم قبل أن تقع الفأس على الرأس تقدم فقط لنضعهم على المحك ، ثم نرى ما يمكن فعله بعد ذلك ! ! 

سقط في يدي .. ويدي أصلاً فارغة .. ضربت أخماسي في أسداسي وقلت لها « والله لن أخذلك .. ولن أتركك له أبداً .. قولي لأهلك أنا سنحضر إليكم يوم الإثنين «

إستبقيت يدي في يدها هنيهة وأنا أودعها : نفيستي الغالية .. كنت أريد لك فرحاً قصصاً تروى وتسير بذكره الركبان « ولكن تأتي السفن بمالا تشتهي الرياح» 

ومن فوري ذاك ذهبت له – ليس ثمة حل – طرقت الباب فجاءني كأنه  كان  بانتظاري كان يتقمص قميصه الشفاف ، يخرج من بابه متسايفاً – أذكرتني تلك المسايفة مقولة أمي التي ما تفتأ تقولها بين الفينة والأخرى :  

« خاينة خايفة .. تأكل متعايفة .. وتخرج متسايفة « 

أهلاً أبو الشباب  .. احتضني وكرشه أمامه بارزة .. تفضل ! !

لم أتفضل .. ولكني قلت له باقتضاب : 

كان بيننا كلام .. ياخي زيد المبلغ شويه 

وحات معذتك يا محمود لولاك انت ما دفعت هذا المبلغ ! !

ياخي خليها تمانيه !

والله سبعاً لن أزيدها قرشاً ! !

قلت : حسناً قبلت .. قال إذن أدخل لأعطيك الفلوس .. قلت وأنا أهرول الصباح رباح .. وكان حيين بنتلاقى ! ! 

حقلي في اخضراره الزاهي .. وعلفه يتمايل في رقصه الباهي .. لو اني بعته في الظروف العادية فان سعره لن يقل عن الآلاف العشر .. هاانذا ابيعه بسبعة الاف فقط – هل لان اسمه ابو سبعين أبى الا ان يدفع فيه سبعاً ؟؟ 

عموماً – ذهب المضطر نحاس ، والعاقل من ياخذ ما تعطيه على استحياء ! !

جاءتني العازة – هل سبق ان قلت لكم إنها لماحة ؟؟ 

قالت : محمود .. الكلام دخل الحوش ، والمغتربين ديل زي الوحوش .. والله ناس الحلة كلهم بحبوك وبحترموك لأنك حميم وخدوم وسيرتك زي الدهب – الصندوق – الصرفة دي كانت دايراها اميرة ، لكن انا اقنعتها ..قلت ليها عندي غرض اظنها فهمت .. دحين هاك الخمسه مليون ديل كمل بيهم وبعدين الله كريم ! ! 

« يا العازة  .. أي معزة .. واي عزة ؟؟» 

« عمل الخير .. ربنا بتمو « مقولة الجد سعد «

دخلت عليها حوة بت سليمان  .. واخبرتها الخبر .. من فرط فرحتها ، رفعت عقيرتها وكادت ان تطلقها زغرودة لولا ان حشتها ! !  

اتريدين ان تجمعي حولنا الناس في انصاص الليالي ؟؟ 

قلت لها ضربنا لهم موعدا ان نذهب اليهم يوم الاثنين ان شاء الله 

قالت : على خيرة الله يا عشاي ! !

ومن فوري اتجهت الى عما لنا « احمد لالوبه»

استقبلني هاشا وهو يتفرس في هيأتي .. وعندما أخبرته الخبر قال :

القصير يا فتنة .. يا حكمة وأنت جمعتهن الاثنين ! !

احتججت على قوله بقولي : يا عم أأنا فتنة ؟؟

قال : لو مافتنة داير تشيل من الزول بت خالتو وتقول انا فتنه ؟؟ فتنه ونص … 

أوشكت  أن أصدقه لول اني رايت انطلاقته ووجهه الباش. وزاد على ذلك بقوله : أبشر .

قمت واصلت بليلي ذاك  بكراع كلب – عمنا فريجون – نقلت له الخبر وفي داخلي تنسرب معلومة خير البر عاجله .

قال : اخوانك البرا علمانين ؟؟

قلت : بل هم لبراليين ! ! 

اكتسى وجهه بالدهشة – أدركت انه لم يدرك – فتركته لدهشته ومضيت ! !

قالت امي : كلم عبدالرحمن وعلي وعثمان .. حاضر قلت .. 

والجاك ؟؟

قلت : وإذا ما فهم الجاك الكلام ؟؟

أجي ! ! !

السبت .. الأحد .. أين أنت يا يوم الاثنين يوم ولد الهدى .. والكائنات ضياء .. إليّ .. إليّ .. 

وجاء اليوم الموعود .. ومنذ ان غربت شمسه .. كنت كما قال المغني .. أهيئ زينتي واعد مفتخر الثياب .. لبست ونزعت .. نزعت .. ولبست .. حتى قر قراري على هذه السكروته ..ومركوب النمر .. والعطر الفاغم .. والعمامة المشغولة الأطراف … ويا بيتها في آخر الدنيا.

     تجمع الركب الميمون يتقدمه العم فريجون ..استقبلنا .. وجلسنا على الأسرة .. والكراسي .. الجو بالغ الروعة .. الساحة مكنوسة ومرشوشة .. والاستقبال طيب .. وهذه بشارات ام هي بشريات ؟؟

آه يطير مني الفؤاد .. وأحسها جالسة هناك – تطالع كتابي الذي استعارته مني ذات مساء – بعد ان حدثتها عنه .. انت تقرأين ؟؟ أنت عصفورة من الريف .. ذات قلب شفيف .. والكلمة إوزة بيضاء – كتلك الصفحة المفتوحة .. والقلم الأزرق .

شربنا البارد .. وجيء لنا بالشاي باللبن – يا عديله يا بيضاء – أهزوجة قديمة – أكلنا جضيمات القاضي .. وتنحنح العم فريجون « ان جاءكم من ترضون دينه … ويا معشر الشباب … وتنكح المرأة .. وأنا تائه في الخضم .. أخاف خالتها وسطوتها .. انظر إلى أبيها فيسعدني انشراحه وتجاوبه .. وما زلت في سرحاني حين لكزني عثمان ورفعت يدي معهم بالفاتحة .

سنأتيكم بالشيلة يوم الخميس – والخميس الذي يليه نتمم العرس .

عرفت أن الطفشانة – او النبجة كما يقول احمد فاضل عندما جاءه الخبر قال هذه حلة لا تستحق الضوء ولا الانارة .. ساعود بمحول الكهرباء .. وسامنع وصول المعدات الطبية للمركز الصحي .. والبنات راقدات ! !

كان الاعداد يجري بأسرع الإيقاعات .. ذهبت وداد و آمنه وستنضم إليهن هناك بتول ورندة في المدينة لشراء الشنطة – كان المامول ان احضر لست الستات شنطة معتبرة  ستة ..ستة لكني الآن وللظرف الماثل .. والأمر العاجل نكتفي بخور اربعات .. أربعه .. أربعه ليس بالشيء القليل على أي حال .. وداد أكثرن من الريحة والكريمات – نفيسة فتاة متدينة .. أكثرن لها من الديانات ! ! يضحكن ..

أصداء الأمر في فضاء القرية الفرح الغامر ما عدا شلة العطالى المنبوذين ربما تلقو اعطيات الطفشانة !

نشطت الحركة باقتراب اليوم .. ما أكثر المشاهد .. ما أجمل الشهود .. الحشود التي جاءت تترى .. القرى والفرقان والحلالات … الدواب المربوطة والمخالي المدلاة على اعناقها .. عربات الكارو .. البصات القديمة.

كانت لحظات لا تتكرر … سعادة غامرة تكسو الوجوه … لحظة أن ضربت الكواريك ثم فاجأ الناس ملتحي أطلق أعيرة نارية أفزع الناس . 

وما لبثت الزغاريد أن ردت على نيرانه الصديقة .. 

أحدهم هزته الفرحة فلم يتمالك نفسه فنهض فينا خطيباً :- 

محمود زينة شباب القرية

انه أميرها .. قائد نفيرها

ضارب جيرها .. رافع سورها

حافر قبورها  … وعشان كده

يستحق الاحترام من كبيرها وصغيرها

صفق له الحضور .. وعلى حين غفلة جاء أخي الكبير من اغترابه بعربه فارهة تلقاه الملتحي إياه بنيرانه الصديقة من جديد ثم اذ وصل خبر مجيئه للنساء انطلقت الزغاريد من جديد .

وانا في قمة فرحي جاءت مقولة شلة العطالى لتقول أن العريس امسك أمه حتى لا تذهب للحج والعمرة لان إخوته لو ذهبت إليهم أمهم سيوقفون البث … وسيقطعون الإمداد … وستنكشف حالة البلاد ! !

الأوغاد ! ! تعساً لهم … ولقالتهم …. وربما لخالتهم أيضاً التي قد تكون وراء ذلك ! !

 

شارك القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *