في السودان: اليمين يتجه يسارًا… فماذا هناك؟

28
محجوب الخليفة

محجوب الخليفة

كاتب صحفي

• تشهد الساحة السودانية في السنوات الأخيرة تحولات سياسية وفكرية غير مسبوقة، تعكس حالة من الانزياح غير التقليدي في موازين القوى داخل البلاد. لم يعد الخط السياسي في السودان محصورًا ضمن الحدود التقليدية بين اليمين واليسار، بل بدا أن أطرافًا محسوبة على اليمين، بما في ذلك الإسلاميون والوطنيون المحافظون، بدأت تتبنى سياسات وقرارات تقترب من المنهجية التي عادة ما يُنسب إليها اليسار.

المثال الأبرز على هذا التحول يتمثل في النقاشات الأخيرة حول استعادة الأحزاب مقارها وأنشطتها السياسية في العاصمة الخرطوم، حيث يطالب الحزب الشيوعي السوداني بحقوقه القانونية كاملةً، ويبرز هذا كمؤشر واضح على أن الدولة، حتى من خلال مؤسساتها التنفيذية، بدأت تعترف بدور الأحزاب الفكرية المستقلة التي كانت تعاني من التهميش لفترات طويلة. مقال سناء حمد عن «الربكة» يعكس بوضوح هذه الديناميكية؛ فهو لا يكتفي بسرد تاريخ الحزب الشيوعي ودوره في الحياة السياسية السودانية منذ 1948، بل يشير أيضًا إلى إمكانية فتح صفحة جديدة في العلاقة بين الإسلاميين والشيوعيين، انطلاقًا من توافق وطني على استقلال البلاد وتعزيز السيادة الوطنية.

التغيير لا يقتصر على المشهد الحزبي فحسب، بل يمتد إلى صعيد الدولة والسياسة الخارجية، حيث تجري محادثات استراتيجية بين الحكومة السودانية والحكومة الروسية في موسكو، تهدف إلى إرساء شراكة شاملة تشمل تطوير الموانئ السودانية، وتحسين قطاع النقل الجوي والبحري، وتعزيز الإنتاج في الزراعة والصناعة والتعدين. هذه الاتفاقيات ليست مجرد شراكات اقتصادية، بل هي محاولة لتوسيع الفضاء الاستراتيجي للسودان، وتحويله إلى قاعدة إنتاجية مهمة تلبي احتياجات السوق العالمي، بما يفتح أبوابًا جديدة للنفوذ والسيادة الوطنية.

إذن، ما الذي تعنيه هذه التحولات؟

1- إعادة ترتيب الأولويات السياسية: 

يبدو أن السودان أمام مرحلة جديدة، يتم فيها التركيز على المصالح الوطنية العليا، بعيدًا عن الصراعات الأيديولوجية الضيقة. التحالفات المحتملة بين القوى اليسارية واليمينية التقليدية ليست بالضرورة اندماجًا أيديولوجيًا كاملًا، لكنها مؤشر على الاستعداد للتفكير في بناء وطن مستقر وقادر على الدفاع عن مصالحه.

2- تجاوز مرارات الماضي: 

كما أشارت سناء حمد، فالصراعات القديمة بين الإسلاميين والشيوعيين ملأت صدور أجيال بالمرارة، وأعاقت مسار التطور السياسي. ما يُطرح اليوم هو إمكانية فتح حوار هادئ أو حتى صامت بين الأطراف الكبرى، قائم على العقل الوطني والاعتراف بمصالح الجميع، وهو ما قد يمهد الطريق لشراكات سياسية مستقبلية قادرة على تجاوز نزاعات الماضي.

3- استراتيجية اقتصادية محكمة: توظيف التحالفات السياسية لصالح الشراكات الدولية، كما في التعاون مع روسيا، يعكس إدراكًا متقدمًا لأهمية الاقتصاد كأداة للنفوذ والاستقرار. فالسودان، من خلال تطوير موانئه ونقل البضائع الزراعية والصناعية، يصبح لاعبًا مهمًا في المنطقة، قادرًا على التفاوض مع القوى الكبرى على قدم المساواة.

4- انعطاف يمين البلاد نحو يسارها: المصطلح ليس مجازيًا فحسب، بل يعكس تحولات حقيقية في الممارسة السياسية، حيث يظهر أن القوى التقليدية، بما فيها التي كانت تمثل اليمين الديني المحافظ، بدأت تبني سياسات تميل نحو التعايش، واحترام القوانين، والانفتاح على مفاهيم العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، وهي سياسات غالبًا ما كانت تُنسب إلى اليسار السياسي.

لكن، يبقى السؤال المحوري: هل هذه التحولات تمثل بداية مرحلة جديدة للنهوض السياسي والاقتصادي، أم أنها مجرد مناورة تكتيكية للتعامل مع الضغوط الغربية والأمريكية؟

الحقيقة أن الإجابة ليست بسيطة، فالتحولات الحقيقية تتطلب أكثر من مجرد تصورات أو شعارات، فهي تتطلب إرادة سياسية حقيقية لتجاوز النزاعات القديمة، والاستثمار في الشراكات الدولية بطريقة استراتيجية طويلة المدى. كما أنها تحتاج إلى تفهم شعبي ودعم مجتمعي للأهداف الوطنية، بحيث يصبح الخطاب السياسي قادرًا على بناء الثقة بين المواطن والدولة.

في النهاية، يمكن القول إن السودان يعيش لحظة فارقة، لحظة يُعيد فيها كل طرف النظر في موقعه ودوره، لحظة تُعيد ترتيب الأوراق على الطاولة السياسية والاقتصادية. الانحيازات التقليدية تتلاشى، واليمين يتجه يسارًا، واليسار يبحث عن أرضية مشتركة مع القوى التقليدية، وكل ذلك من أجل هدف واحد: بناء وطن متماسك، قوي، ومستقل.

السؤال الكبير يبقى مفتوحًا: هل سيستطيع العقلاء، الذين يملكون فضيلة التعالي على الذات، أن يستثمروا هذه الفرصة لتأسيس حلف وطني عملي، أم أن السودان سيظل عرضة للتقلبات والتجاذبات الخارجية؟

في كل الأحوال، السودان يقف على مفترق طرق، والطريق الذي سيختاره سيكون فارقًا ليس فقط في الداخل، بل في موقعه الاستراتيجي في شرق إفريقيا والبحر الأحمر، وربما في قلب التوازنات العالمية القادمة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *