عثمان النو وسارة راني: جدل الصوت والسلطة .. قنديلٌ في وجه العتمة.. فلماذا يُطفأ؟
Admin 20 أبريل، 2025 127

راني السماني
ملحن وتشكيلي
صوت الطفلة سارة راني وظل الأستاذ القدير عثمان النو وجمرة من الماضي:
جمرة من الماضي.. تُحرق حلم طفلة وأغنية ممنوعة في زمن مجروح.
في مشهدٍ مؤسف، ومحمَّل بالتناقضات، أُبلغنا بأن الفنان عثمان النو، قد وجّه بمنع الطفلة سارة راني (ذات الخمسة عشر عاماً), من ترديد أغنية “جمرة”، التي قام بتلحينها أ. النو وسطر كلماتها جمال حسن سعيد ومحمد الحسن سالم حميد في أوائل التسعينات، وقدمتها مجموعة “هُدَى” الغنائية بين عامي 1993 و1994، قبل أن تغيب عن المشهد لما يزيد عن ثلاثة عقود، ليقوم أ. موصلي بإعادة توزيعها وتقديمها لسارة كما قدمها من قبل لمجموعة هداى.
ما يُثير الاستغراب والحزن أن هذا المنع لا يأتي من مؤسسات قمعية، ولا من دوائر رقابة رسمية، بل من فنان كبير، كان الأمل أن يكون حاملاً لراية التجاوز لا الحصار، للتجسير لا القطيعة، للعبور لا المنع.
والأدهى من ذلك أن الأستاذ عثمان النو نفسه، يشارك معنا اليوم في مجموعة فنية تضم أساتذة كباراً مثل: يوسف الموصلي، علي الزين، الواثق الأمين، صديق نقد الله و إبراهيم سوناتا، وهي مجموعة شرعت في التحضير لعمل أوبرالي عالمي، وفتحت أبوابها لكافة الشعراء بمختلف الأعمار والخبرات للمشاركة في كتابة النصوص، وهو مشروع نُشر عنه بيان مفتوح وتناولته العديد من المواقع والصحف.
وقد دار نقاشٌ حقيقي داخل هذه اللجنة، حين طُرحت فكرة اختيار نصوص لعدد من الشعراء الكبار فقط، حيث أبديتُ تحفظي على هذه الآلية التي قد تُقصي التجارب الحديثة، وبعد نقاش جاد ومفتوح في إجتماع، ضمّ الأستاذ عثمان النو نفسه وشخصي، بالإضافة للأساتذة علي الزين، صديق نقد الله، الواثق الأمين، تم التوافق على فتح الباب أمام الجميع دون استثناء.
وقد أسند الاجتماع مهمة التلحين للأستاذ عثمان النو، إيماناً منا بضرورة ربط الأجيال الجديدة بالإرث الثقافي السوداني، وبأن مسؤوليتنا لا تقتصر على حماية الماضي، بل على إفساح الطريق لمن سيكملونه.
فكيف، بعد كل ذلك، نُفاجأ برفض الأستاذ عثمان النو لمحاولة فنية صغيرة لطفلة ذات موهبة واضحة، فقط لأنها لم “تُقنعه” بصوتها، ولأنها في رأيه “بعيدة عن الغناء”؟
نحن نحترم الرأي الفني، حتى لو خالفنا،
لكننا لا نحترم أن يتحوّل الرأي إلى حكمٍ نهائيٍّ بالإعدام على التجربة، دون تقديم أي ملاحظات علمية أو تشخيص أكاديمي أو حتى نصيحة بنّاءة.
سارة راني السماني
طفلةٌ من أب سوداني وأم فلبينية،
وُلدت ونشأت في كندا،
لكن قلبها كان يخطو نحو السودان قبل أن تُتقن خطّ حروفه.
تعلّمت اللغة العربية بمبادرةٍ ذاتية،
وأتقنت العزف على البيانو،
وعلى آلاتٍ أخرى لم تكن سوى امتداداً لأناملها الصغيرة الباحثة عن نغمةٍ تُشبه الوطن.
لم تُشارك في استعراض،
ولم تُقدِّم نفسها بديلاً لأحد.
كل ما فعلته أنها غنّت..
بصدق، من بواطن قلب لم يلوثه شيء سوى الحنين.
غنّت للبنيات وللأطفال العالم الثالث،
لـ “يُمّة” البلد و”باب” الوطن الذي تمنت أن يتسع للجميع، غنت للكنداكة الوجع الصامد ” بت بلادي المحزنة”،
غنّت لـ الكشكش- “شافع ورنيش”،
وللحنية المفقودة،
وللإنسان المنسيّ في زاوية بعيدة وللمنفية في طرف المدن ومهمومة بي حال الرجع”.
غنّت لبيوت الطين الشامخة أنين،
وللسودان، الوطن الواحد.. شعب عظيم.
لم تكن تغنّي لتنافس،
بل لتقول:
“أنا هنا.. من بعيد،
لكني أسمعُ وجعكم
وأرددهُ بلحنٍ صغيرٍ..
علّه يُداوي الجراح.”
من الجمرة إلى الجُمود:
حين يُقصى الغناء من فم الطفولة.
إن الموقف الذي اتخذه عثمان النو لا يعكس فقط مفارقة غريبة بين ما يؤمن به نظرياً وما يُمارسه عملياً، بل يُلقي ظلالاً ثقيلة على علاقة الفن بالأجيال الجديدة.
فهل نُشجعهم حين يكون الأمر عاماً، ونمنعهم حين يقتربون من مساحات “نعتبرها لنا”؟
هل نفتح لهم الأبواب في الاجتماعات، ونغلقها في وجوههم عندما يغنون؟
وأخيراً، نقول للأستاذ عثمان النو:
من يُطفئ غناء البراءة؟
فيكفي سارة، ما وجدته من احتضان صادق، والتفاف كريم من كبار الفنانين والمربّين، وفي مقدّمتهم أستاذ الأجيال، ومعلمك أنت قبلها، يوسف الموصلي، الذي تتلمذت على يديه في معهد الموسيقى والمسرح،
والذي لم يبخل يوماً على سارة بدعمه وتوجيهه ومحبته.
وها نحن، من هذا المقام، نتقدم له بجزيل الشكر والتقدير، على ما يقدّمه للفن، وعلى موقفه الإنساني النبيل مع سارة والكثيرون غيرها.
إلى جانبه، كانت كوكبة من المخلصين، أوفياء للفن وقضاياه، من شعراء وملحنين وأكاديميين وموسيقيين، ومهتمين.
منهم من كتب، ومنهم من لحّن، ومنهم من قدّم كلمة طيبة،
أو نقداً بنّاءً، أو دعماً معنوياً، في وقت كانت فيه الكلمة سنداً، وكان الموقف فاصلاً بين النُبل والخذلان.
عمر منصور، الهادي جمعة جابر، خالدة الجنيد، حمزة سليمان، شمت محمد نور، آمال النور، صادق شيخ الدين، سمية قسم، الواثق الأمين، هلالي، إيهاب الأمين، عبد الله برير، د. عصامي، عثمان بشرى، حافظ عباس عالم، خالد الأمين، طارق أبو عبيدة، عاصم الحزين، كمال طيب الأسماء، عمر الداتر، مها البدوي، تهاني حسن، نزار فتحي، علاء الدين بابكر، خالد مونيكا، مدني النخلي، سيف الجامعة، د. طلال دفع الله، أحمد مضوي، صديق نقد الله، عبد الوهاب هلاوي، غاندي مفتاح، د. عبد الرحيم، أمير موسى، أزهري محمد علي، زينب عباس، منى السيد، قاسم أبو زيد، تماضر حبيب الله، محمد إبراهيم أبو عرب، اسلام علي (ترنيمة خالدة)، أميرة مدني، عمر فتح الله، هشام سيد أحمد، آمال الزين، الصادق الرضي، تماضر شيخ الدين، علي الزين آب حالاً زين..
وغيرهم ممن أسهموا، ووقفوا، وشهدوا لموهبة تستحق أن تُنصَت لا أن تُقمع.
وإن سقط اسمٌ، فالعذر في القلب، لا في النية.
هؤلاء ليسوا مجرّد أسماء،
بل قلوبٌ رأت في سارة مشروعاً يستحق أن يُصغى إليه، لا أن يُخرس.
كلُّ واحد منهم بفعله أو صمته النبيل، آمن بأن الفن لا يُغلق في وجه من وُلدوا على نغمة، ولا يُحرَم عن الطفلات اللواتي يردّدن الحنين قبل أن يعرفن وزنه.
هم رفاقُ درب، عيونٌ لم تخطئ النور،
وأيادٍ مدّت لها السند في لحظة كان فيها الصمت خذفةً للنور.
كنا نأمل، يا أستاذ عثمان النو، أن تكون أحدهم.
أن تكون من تلك الركائز الوفية، لا من المتفرجين.. ولا من الواقفين في صفِّ العتمة.
كنا نأمل أن تكون عوناً، لا صمتاً ولا كرباجاً يُهوى في وجه الموهبة.
ولا خصماً يقف على الجانب الآخر من أحلام طفلة.. أصغر من غنائك.
.
.
و
و منو؟
“منو البقدر يخاصم طفلة
صِبحت هازلة فوق مدّ الأسى .. الحرّاق”؟
.
.
منو؟
شارك المقال