
محمد سنهوري الفكي الأمين
باحث وكاتب صحفي
• في رقعة الشطرنج، تتقدم البيادق ببطء، تضحي بنفسها، وتفتح الطريق للملوك والوزراء، وفي السودان، يتكرر المشهد ذاته منذ عقود: الشعب يملأ الشوارع، يسقط الطغاة بصدور عارية، ثم يأتي العسكر ليقطفوا الثمار، حدث ذلك في أكتوبر 1964، وفي أبريل 1985، وآخرها في ديسمبر 2018 حين أسقط السودانيون البشير بعد ثلاثين عاماً من الحكم، لتنقض المؤسسة العسكرية على الثورة وتحول الحلم الديمقراطي إلى كابوس جديد. إنها فصول مسلسل معاد الحلقات، دائماً الشعب يصنع النصر والعسكر يسرقه، والساقية لسة مدورة.
بدأت المأساة عام 1958، حين اهتزت الديمقراطية الوليدة تحت وطأة الخلافات السياسية، رئيس الوزراء عبد الله خليل من حزب الأمة، شعر بأن السفينة تغرق، فطرق باب الفريق إبراهيم عبود طالباً التدخل لفرض النظام، كانت الفكرة “تسليماً” مؤقتاً للسلطة، لكن بريق الحكم أعمى الجميع، فتحول التسليم إلى انقلاب كامل الدسم، ألقى عبود بيانه الشهير عن “الفوضى والاضطراب”، مؤكداً أن الجيش “لا يرجو نفعاً ولا كسباً”، لكن السنوات الست التالية أثبتت عكس ذلك، وحين خرج الشعب في ثورة أكتوبر 1964 وأسقط النظام، لم يستوعب أحد الدرس.
في 1969، عاد التاريخ بألوان أيديولوجية جديدة، صعد العقيد جعفر نميري على ظهر دبابة، مدعوماً من الحزب الشيوعي، الذي رأى في الانقلاب فرصة لبناء دولة اشتراكية. قدم الشيوعيون كل الدعم، حتى في قمع خصومهم من الأنصار في الجزيرة آبا، لكن نميري سرعان ما انقلب عليهم، وفي يوليو 1971، حاول الضباط الشيوعيون انقلاباً مضاداً، لكنه فشل بمساعدة مصرية وليبية، لتبدأ واحدة من أكثر الفترات دموية في تاريخ السودان، تمت تصفية قادة الحزب الشيوعي بوحشية، ليثبت العسكر أنهم لا يؤمنون بالرفاق، بل بالسلطة فقط.
وفي أبريل 1985، خرجت الجماهير مجدداً وأطاحت بنميري، لكن الثمار ذهبت إلى غير أصحابها بعد ديمقراطية هشة.
لم تمر سنوات قليلة حتى عادت المسرحية عام 1989. هذه المرة، كان الإسلاميون هم من طرقوا باب الثكنات، دبر الشيخ حسن الترابي انقلاباً عسكرياً، واستدعى عمر البشير ليكون واجهة الحكم، وكالعادة، برروا الانقلاب بـ”إنقاذ البلاد” من التدهور. وكالعادة، انقلب البشير على الترابي عام 1999، ليحكم ثلاثة عقود، شهد فيها السودان حروباً أهلية وعقوبات دولية وأزمات خانقة. وفي ديسمبر 2018، صنع الشعب أعظم انتصاراته، فخرج في ثورة سلمية استمرت شهوراً، ملأ الشوارع بالهتافات والأغاني، وأسقط البشير في أبريل 2019، لكن المؤسسة العسكرية كانت تنتظر في الظل، وسرعان ما انقضت على الثورة تحت شعار “الشراكة”.
في أبريل 2023، اندلع صراع جديد، هذه المرة بين عسكريين، الجيش بقيادة البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، والمفارقة أن قوات الدعم السريع نفسها نشأت من رحم نظام البشير كمليشيا لقمع المتمردين في دارفور، واليوم تحولت إلى لاعب رئيسي في الصراع على السلطة، والأدهى أن القوى المدنية عادت لترتكب الخطأ ذاته، فانقسمت بين من يراهن على الجيش ومن يراهن على الدعم السريع، البعض يرى في الجيش حامياً للدولة، والبعض يرى في الدعم السريع قوة لكسر احتكار الجيش للسلطة، وفي خضم هذه المراهنات، يُنسى الشعب، ويُترك ليدفع ثمن لعبة لا يملك فيها قراراً.
التاريخ السوداني يقدم درساً واضحاً، الشعب يصنع النصر، والعسكر يجني الثمار، حزب الأمة راهن على عبود فخسر، الشيوعيون راهنوا على نميري فدفعوا حياتهم، والإسلاميون راهنوا على البشير فانقلب عليهم، واليوم، تتكرر المأساة فماذا ننتظر من هذا الصراع؟ هل سينتصر الجيش ليعيد إنتاج النظام العسكري القديم؟ أم ستنتصر قوات الدعم السريع لتفرض حكماً مليشياوياً؟ وفي كلتا الحالتين، أين الديمقراطية التي ثار من أجلها السودانيون؟
الدرس الذي يجب أن يتعلمه السودانيون، هو أن الطريق إلى الديمقراطية لا يمر عبر فوهات السلاح. الشعب هو القوة الحقيقية، وهو من يصنع التغيير، لكنه يجب أن يتوقف عن المراهنة على العسكر، وأن يدرك أن قوته في وحدته وإصراره، لا في تحالفاته مع أصحاب السلاح. وإلى أن يدرك المدنيون هذه الحقيقة، ستظل الحلقة المفرغة تدور، وستظل الدماء تسيل، وستظل الأحلام تتبدد. التاريخ يقول إن الأمل ضئيل، لكن الشعوب، كما أثبتت ثورات السودان المتعاقبة، قادرة دائماً على المفاجأة. ولعل الأمل الوحيد يكمن في أن يتعلم السودانيون، أخيراً، أن النصر الحقيقي لا يتحقق إلا حين يجني الشعب ثمار انتصاراته بنفسه، بعيداً عن منطق الثكنات.
شارك المقال