نظرة يسار سارة عبدالمنعم

سارة عبدالمنعم

كاتبة روائية

• كاد صوت الوحدة يشق دمع حنينها بهمس يبارك امنيات غربتها بفجر جديد؛ تقافزت الأشياء أمامها بتوهم اللحظات؛ تبتسم تارة حين تُلبس الوقت تفاصيل مفتقدة. الساعة الآن موعد كوب شاي يكتمل مزاجه بانفاسِ صانعتُه، بتوبيخٍ تصبه على رجل جوارها إن اشتغلت شفتاه بإشعال سبجارته باكراً؛ وتلك الصبية، كعادتها، ستعيد أحداث كل يوم؛ تنشغل عنهم بتجهيزات خروجها دون اكتراثها لجلسة يدعونها إليها لبضع دقائق من وقت جلوسها؛ صباح أدفع عمري جزاءً له من أجل النيل منه! صوت الشارع يضج بأبواق سياراته. أقدام المارة تتهيأ ليوم يفقدها أواخره صمود الصباح. شمس تتثائب من كسل نعاس لم يمنعها يوماً من شروق غير الذي تشتهيه، وآخر يتعمد إيقاظ السكون بدعوة شراء تقف أمامه الأواني مختلفة الألوان والأحجام من أجل ذاك الابيض الناصع (سيد اللبن). وهناك يفترش بائع الخضار مجلسه لثرثرة نسوة تتذمر  وجوههن من ضيق الحال، وأخريات ينشغلن بأخبار البلاد، وحكايا الشكوي وقصص صغارهن تنبي عن لحظات فضفضة كمن تشتهي مسمعاً يشعر بمكنونات دواخلها. وذاك الطفل يتشبث بكتف أمه، وصوت بكاءه يطالب جوار أبيه. لكم خادعوني مثله بأن غائبي سيعود من أجلي بحفنة مال وحلوي. وذاك المهرجان هناك، عرس صغيرة لم تبلغ الخامسة. عرس أول، تُجهَّز فيه بالألم لزفاف لاتخفف السنوات وجع لحظته. ختان لمخدوعة بنقش حناء، وأحمر شفاه، وعطور نسائية يترأس  مسامها رائحة المحلب، وحفنة مال ستنالها إن إدعت الجسارة والصمود!   عروس اليوم بينها وجرح الطفولة بضع لحظات تأتي بعدها آلآف التحذير والمحاذير :  لا تلعبي مع صبي! لا تسابقي الريح بخطو إسراعك! لا تقفزي فوق أسوار جنون براءتك! صرت الآن فتاة. خمسة أعوام تتواري خلفها شقاوتها وجنون طفولتها لتصير فتاة رشد تتقيد بلائحة المحاذير لا .. ولا، فما ستخيطه تلك القابلة هو الشرف! شرف يسكن بين فخذيها ينتظر رجل العمر كي يقرر حكم إدانته، أو تبرئتها، بذات الألم الذي لن يقلل العمر حجم معاناتها بأحمر شفاه ووليمة عرس، والفرق لديها أن حياتها ستبتدئ من ليلة زفافها بتخليها عن حضن أم تخفف تربيتها كل ألم. و.. رجل هناك يهش غنمه، يصرخ بها كأنها تعي صوت غضبه إن انسرقت اقدامها نحو الجدول؛ وصوت آخر بلغة استيعابها يدعوها لمجاراة خطو رحيله، وابتسم لرضوخها، فلكل إشارة وتلميح وصوت ( لغة) توصل المعني!

ومن هنا انكشف وجه تصنعي. خرجت لغة بوح صادق بذلك الهاطل على خد وحدة تثير أحاديث ذاكرتها؛ حس حنين يساءلني كم ثمن تلك اللحظات وإن ملكت خزائن قارون! 

خرج صوت «يوسفي» من عمق جب الروح، يغريني بشوقه (لأوصد ابواب الغربة متهيأة للفرار من مراودة لحظات المنفي. من أجل صباح سكر تحمله بلادي بمن تحتويهم ، تفاصيل لم اهبها يوماً هذا الحنين والتزود حين كانت بين يدي، ليقين لم يساورني فيه شك، أن الغربة برحمتها لا تستقبل الضعفاء، بل عيب عليها إيواء النساء، لعلمها بانهزام روح تحملهن إن جاء الافتقاد بصوت عبرات يشتهي صباح بلاد سكر، رغم مرار حالها.

و.. الساعة الآن وحده لاتفرق بين ضعف امرأة وصمود رجل ، إن خرج صوت المذياع بصوت الحُسيينين (كلمة واداء)، تتوهم فيها أنك المقصود: 

«كل طائر مرتحل 

عبر البحر 

حملتوا أشواقي الدفيقة ليك ياحبيبي 

للوطن 

لترابو 

وناسو 

للدار الوريقة ..»

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *