
د. عبدالمنعم سليمان
كاتب صحفي
• هذه اللافتة تزين كل صالات المطارات ويزدحم فيها الخلق الكثير، تتلاصق كتوفهم، وتتلاحق أنفاسهم في طوابير طويلة، وهم يمسكون بيمناهم جوزات السفر، والتذاكر، وبيسراهم يدفعون عربات مكتظة بحقائب السفر، والعيون تبرق بالترقب، والخيال يجمح على صهوة جواد الود، والمحبة، لعناق الأهل، والأصدقاء الذين يتكدسون عند مدخل مطار الوصول، وهنا تحتشد الأخيلة بالكثير من المشاعر، التي قد تكون عند البعض لقاء أم صدرها يعج بالدفء، والحنان، أو لقاء أب عند عناقه، يأتيك وجيب قلبه لحناً منغماً.
( متين يا علي تكبر تشيل حملي )، ويملؤك اليقين وأنت في حضن عناقه، بأنك قد بدأت أولى خطوات حمل هذا الحمل الثقيل عن كاهل هذا الأب الشامخ بالأماني، وعندما تتحرر من حصن أبيك، بعد أن تكون قد تعطرت بعبق أنفاسه، وخفق آماله في أن يراك دوماً تاجاً تزين هامته بين كل الناس، تتلاقى بعد ذلك نظراتك بنظرات تجتذبك بمجال الإخاء المغناطيسي لحضن أخيك، وأنت تحتضنه مشتاقاً، ومفاخراً، لتسمع نبض قلبه المحب يؤكد لك قول الله عز وجل (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ).
وهناك بين الحضور قد تكون عصفورة، منزوية في عباءة الخفر والحياء، لا تجيد إلا التغريد، ولها في القلب مكاناً فريد، وتكون أنت الوحيد بين كل الزحام القادر على فك شفرة هذا التغريد، فتفهمه و تعيه، وكأنه يردد:
((طال الزمن بلحيل و أنا قاعدة مستناك.
برجاك، وما بندم، وأنا عمري كله فداك
بس يوم تعود أرجوك لا تسيبني تاني وراك.
يا أقعد إنت معاي، يا إما سوقني معاك ))
يقطع سيل هذا الخيال الجامح، بلقاء الأحباب والأهل، صوت مكبر الصوت بالمطار، وهو يعلن عن رقم رحلتك، وموعد الإقلاع في النداء قبل الأخير، لتترجل عن صهوة جواد الأحلام هذا، وتمد الجواز، وبطاقة الصعود إلى الطائرة إلى موظف يجيد الإبتسام مودعاً، لتدخل بعد ذلك في أنبوب طويل، طول آمالنا في هذه الدنيا الزائلة، لنصل إلى مقاعدنا في رحلة نأمل فيها لقاء الأحباب، وعناقهم.
صالات المغادرة المتناثرة هذه، جزء من الدنيا بكل صخبها، وضوضاءها، وضجيجها، وحركة المسافرين فيها تشبه ركضنا اليومي في دنيا تعج بالمطبات، فكيف نغفل عن صالة المغادرة الكبيرة لدنيا قد نغادرها في أي لحظة بتأشيرة خروج نهائي، جوازاتنا لها هي صحائفنا التي قد تبيّض، وقد يجللها السواد، وتذاكرنا هي عملنا، وزادنا لرحلة يطول فيها المسير، والطائرات هذه هي نعوشنا إلى يوم الحساب، ومقاعدنا فيها تشبه ما نحلم به بعد أن نغادر صالة الدنيا الواسعة إلى دار البقاء، والتي نحلم أن تكون مقاعد صدق عند مليك مقتدر.
لماذا لا نتزود في دنيانا هذه، بخير الزاد التقوى، ونشيع فيها الحب، والسلام، والعدالة، ونصون فيها الحرمات، والدماء، لنلتقي نبينا صلى الله عليه وسلم عند الحوض نغترف من كفيه الطاهرتين شربة هنيئة، مريئة لا نظمأ بعدها أبداً، ونحظى بشفاعته.
هلا أعددنا أنفسنا لصالة مغادرة الدنيا، التي من المفترض في ركضنا فيها أن نكون قد غرسنا فسائل الحب، والمودة، وعمرناها بالتقوى، لنكون ممن أوتوا كتابهم بيمينهم.
شارك المقال