
م. معتصم تاج السر
كاتب صحفي
• في إحدى أمسيات القاهرة المُتعبة بالضجيج والحنين، حيث لا شيء يبدو ساكناً سوى الأمنيات والأحلام المارّة بين الوجوه، توقفتُ بالعربة عند أحد الشوارع المزدحمة لتفقد «لوكيشن» في هاتفي، ولم أكن أعلم أن قلبي لا عجلات السيارة هو ما سيتوقف فعلاً تلك الليلة…!
كان الهواء مشبعاً برائحة الشارع، رائحة شواء الذرة والبطاطا، وعبق عربات الكبدة والكشري، وبعض من عطرٍ عابرٍ من نافذة مفتوحة والكثير من موسيقى الضجيح.
وبين زحمة الأصوات أشار لي شاب عشريني بإيماءة خفيفة فيها شيء من التردد وكثير من الرجاء.
أنزلت زجاج النافذة وربما أنزلت معه شيئاً من حذري.
بادرني بتحية خجولة ثم دون مقدمات مدّ هاتفه نحوي وقال بصوتٍ متكسر لا يطلب كثيراً:
«لو سمحت يا باشا ممكن تقرالي الرسالة دي..؟».
أخذتُ الهاتف وكان شكله قديماً بعض الشيء، وفيه شق في الشاشة وآخر في القلب.
تسللت عيناي إلى الرسالة التي أضاءت الشاشة عبر تطبيق واتساب تقول:
«ربنا يريد ليك الخير يا حسن… مفيش نصيب».
يا الله…
تسمرت عيناي ويدي.
وقلت في نفسي كم من حُبٍ دُفن في كلمات قليلة كهذه..!؟
كم من حلمٍ جميل عُمّد بالدمع ثم أُجهض بعبارة مغلفة بالرضا القدري..!؟
كان السطر يصرخ من قسوته رغم قلته وكأنه يقول له: أحببتك، ولكن ليس كفاية لأحارب من أجلك.
تجمد الدم في عروقي، بينما سألني الشاب بعينين كسيرتين فيهما عمر أكبر من سنّه:
«إيه المكتوب.؟»
قالها بتردد المرتبك ثم همس مُبرّراً:
«أصلّي مش بعرف للقراية كويس…»
فعلا……!
لقد لاحظت أن تواصلهما كله كان عبارة عن رسائل صوتية إلا تلك الرسالة الأخيرة..! كانت الوحيدة المكتوبة، وكأنها أرادت أن تكون مختلفة شكلاً وواقعاً على حسن، فكانت كلماتها صعبة عليهِ وعلى قلبي من بعده.
سألته بهدوء يخفي كل الصدمة:
«مين اللي بعت الرسالة؟»
فأجاب بصوت لا يُنسى …!
فيه دفء العمر المنكسر:
«خطيبتي…!!».
يااااااه يا حسن…
ليتني لم أقف هنا، وليتك لم تقف أنت، وليت الرسالة ظلت بلا قراءة.
إنك يا صديقي شهيد جديد يسقط بلا ضجيج في محراب الحُبّ.
في داخلي تمتمت برائعة الشاعر الفلسطيني مروان البرغوثي:
«بعض المعارك في خُسرانِها شرفٌ …!!
من عادَ منتصراً من مثلها…!! انهزما…!»
تمنيتك مروان آخر حين واجه غياب الحبيبة بثبات شاعر يعرف أن لا انتصار في الحُبِ إلا بالخسارات الكبيرة.
سألني مجدداً:
«هي قالت إيه؟»
كأن قلبه يرفض التصديق… وكأنها ما زالت فيه أو أنه ينتظر تفسيراً أكثر رحمة.
أخبرته…
لا كما تقول الرسالة…!
بل كما يسمح لي الحُبّ أن أُهدئ قلباً كُسر للتو.
اخترت كلماتٍ تشبه الربت على كتف حزين، وعبارات تترك باب العودة موارباً؛ وإن كنت أعلم في قرارة نفسي أن بابها قد أُوصد تماماً.
ثم جاءت الضربة الأخيرة…
«ممكن ترد عليها يا باشا…؟»
يا لها من مهمةٍ لا تُحسد عليها بأن تكتب عن نهاية حبٍ ليس حبك، وأن تضع حروفاً تقف بين قلبين أحدهما قد غادر والآخر ما زال يلوّح بالأمل من شرفة الانتظار.
كتبت.. وكتبت… كتبت كما لم أكتب من قبل…!
كتبت ببطء كمن يكتب على صفحةِ نهرٍ جارٍ.
قلت لها شيئاً عن الاحترام، وعن أن الحُبّ لا يُلغى بل يُقدّر حتى حين لا يكتمل.
قلت لها إن حسن لم يخطئ، بل أحب فقط بكل ما يملك وبصدق.
وإن بعض القلوب تظل تنبض باسم من تركها لا لأنها ضعيفة بل لأنها تعرف الوفاء.
وحين همّ حسن بالرحيل مددت يدي أمسكتها بصدق وقلت له مقولتي التي أّؤمن بها، اعلم يا صديقي:
«دائماً للحُبّ حسابات أخرى»
يا حسن…
كثير من حكايات الحُبّ لا تُكتب في دفاتر النصيب، بل تُحفر في قلوبنا إلى الأبد.
ورحل حسن…
لكنَّ شيئاً منه ظلّ عالقاً في قلبي وشيئاً منّي تبع قلبه وهو يمضي في الزحام.
ورغم أني لم أعرفه سوى لدقائق، شعرت كأننا تقاسمنا العمر كله…!!
هو عبر وجعه وأنا عبر ذاك الصمت الذي لا يُقال.
ذلك المساء لم يكن عادياً، كانت فيه القاهرة أقل ضجيجاً وأكثر حزناً.
ربما لأن قلباً فيها انكسر، أو لأن الحُبّ بكل شجونه مرّ من نافذتي وغادر بهدوء يشبه الوداع الأخير.
ولمّا عدت إلى البيت، ظللت أفكر كم رسالة كُتبت لم تُقرأ..!؟
وكم حُبٍّ لم يكتمل ومع ذلك عاش في القلوب أكثر من كل الذين اكتملوا أو رحلوا..!؟
وهل كان حسن أضعف لأنه أحبّ..!؟ أم أقوى لأنه أخلص.!؟
في تلك الليلة أيقنت أن الحُبّ لا يحتاج دائماً إلى نهاية سعيدة…!!
يكفيه أن يكون حقيقياً باذخاً…!!
يكفيه أن يترك أثره في القلب مثل أثر يدٍ حسن على زجاج نافذتي في ذاك المساء.
اللهم يا مُبدّل القلوب ومُداوي الجراح، هون على حسن، واملأ فؤاده نوراً بعد هذا العتم، وأجبر كسره بلطفك الخفي.
اللهم ارزقه حباً صادقاً لا يخذله، ورفقاً يواسيه، وسكينةً تنبت في روحه كما ينبت الزهر بعد المطر،
واجعل له من بعد كل ضيق فرجاً، ومن بعد كل «مفيش نصيب» نصيباً أجمل مما تمنى يا أرحم الراحمين.
محبتي والسلام،،،
شارك المقال