شخبطات عتيقة فى السوق العتيق

176
سوق ام درمان
Picture of منال بشير عباس

منال بشير عباس

• كان الوقت ظهيرة و الشمس استقالت  في هذا اليوم الخريفي البديع عن أداء وظيفتها اليومية في جلد العباد و الأشياء بأشعتها اللاهبة كل صباح و خطاي الأمارة بالحذر تأخذني في دروب سوق أم درمان العتيق ، يختلط صوت الباعة المتجولين في أذني بالضجر و روائح السوق المختلفة المتداخلة الفريدة مثل مكونات أهله و مرتاديه من كل أنحاء العاصمة. 

كانت محاولاتي لحفظ توازني في المداخل الضيقة المعجونة بالطين و مخلفات البضائع تضيع سدي ، فأمشي في خط متعرج ، مثل لاعب سيرك مبتدئ يمشي علي الحبال – حذرا – لا واثق الخطوة و لا ملكآ.

تجاوزت ( المحطة الوسطي ) و (شارع الصاغة ) دخولآ إلي احدي الشوارع الجانبية التي تقود إلي شارع (سوق البهارات و العطارين ) بغية إبتياع بعض إحتياجات المنزل . أعشق مدينتي أم درمان بكل تفاصيلها و احيائها ووجوهها و أسواقها عشقا يملؤني بالحياة و بالفرح . و أعشق في سوقها العتيق حركته التي لا تهدأ و رائحة الأماكن فيه ففي كل ركن حكاية و في كل صورة رواية و لكل رائحة تنفحك منه عطر وعبق لا يشبه إلا ( أم در) و روعتها أتفق الناس حول ذلك ام إختلفوا.

إلتفت بلا دهشة، و أنا اشعر بيد تمسك بطرف ثوبي ، تجذبني في إلحاح (عليك الله يا خالة اشتري مني ) . واصلت سيري دون اكتراث فقد تعودت مثل غيري علي إلحاح الباعة المتجولين، الذي لا يفتر و لا يثنيه تجاهل منك في سوق ( أم درمان).

(كان ما عجبوك ديل عندي حاجات تانيات سمحات هناك بيعجبوك إنتي بس شوفيهن ) واصل الصوت خلفي الحديث و الأستمرار في مسك طرف ثوبي . توقفت في ضجر و نظرت إلي محدثي من باب الفضول و جبر الخواطر . جلدني إحساس بالذنب و أنا أري طفل مليح القسمات ، وضئ الابتسامة ، نظيف الملابس علي قدمها و اتساخ السوق من حوله . كان في حوالي الثامنة من العمر او ربما اكبر بقليل ، مد إلي يديه الممسكتان ببضاعته من أمشاط الشعر و مشابك الغسيل مشفوعتان بأبتسامة عريضة ، إشتريت منه دون نقاش و لا مفاصلة  مأخوذة بطفولته البريئة وإلحاحه و مضيت في طريقي . تبعني مرة اخري مصرآ و مشيرآ إلي قطعة كرتون وضعها أمام أحد الدكاكين الصغيرة في نفس الشارع ( عليك الله شوفي باقي الحاجات يا خالة و كان ما عجبنك ما تشتري ) . كان يسد علي الطريق بخطواته الصغيرة المهرولة أمامي لتدفعني للتوقف ، فوقفت مجبرة أنظر الي ما أسماه بضاعة و كانت عبارة عن بعض الأشياء المتنافرة مثل دبابيس الشعر ، و اقلام الكحل ، و مشابك الغسيل و بعض الحلي النسائية المقلدة رخيصة الصنع والثمن . إبتسم صاحب الدكان الذي إفترش الصغير بضاعته امام مدخله ، عندما رأي وقفتي و قال مشيرا إلي الصغيرسرق بعض (الشماسة) بضاعته ونقوده و نحن اشترينا له بضاعة جديدة لنساعده علي كسب رزقه ) .

تسمرت خطواتي في ذاك المكان و الزمان و سألت الطفل الواقف أمامي أغبي سؤال يمكن أن ينطقه الوجع في لحظة دهشة مباغتة ( و ليه إنت هنا و ما  في المدرسة ؟! )  أجابني بزهو رجل في الثمانين ، و براءة طفل في الثامنة : (كنت في المدرسة لكني خليتها  ، والدي توفي و أنا أكبر أخواني ، إشتغلت عشان أساعد أمي ) . حجبت غمامة من الدمع الرؤيا عن عيني  و أحسست بالجو يزداد كثافة ورطوبة و انا أكاد أعجز عن التنفس .

مددت يدي إلي داخل حقيبتي أعدت له بضاعته التي اشتريتها منه . غابت الإبتسامة عن وجهه الصغير (ليه يا خالة ما عاوزاهن ؟!) هززت راسي بالنفي و بلا كلام ، إمتدت يدي إلي يده الصغيرة، دسست فيها بعض قلبي و بعض غلبي و أسرعت الخطي مبتعدة قبل أن يري دموعي .

خرجت من السوق العتيق و أنا أشعر بأني صغيرة ، صغيرة أتوه في زحام الدنيا الكبير.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *