رومانسية إدريس جماع

100
د. أسامة خليل

د. أسامة خليل

  • في مقدمةٍ لديوانه «لحظات باقية» كتب الشاعر إدريس جماع معرفاً بمفهومه للشعر «إن اتجاهي في الشعر، ولا أقول مذهبي، يحترم الواقع ولكنه يريد له الإطار الفني، ولا يضن عليه بالنظرة الجمالية. ويساهم في دفع الحياة إلى الأمام، ولا يجرِّد الشعر من أجنحته، ولكنه يأبى التحليق في أودية المجهول، ومتاهات الأوهام. ويحب الجديد لا لأنه جديد ولكن للخلق والابتكار. ويحب الإنسان وينفعل للطبيعة. وليس هو رد فعل لاتجاه أو تأكيداً لآخر».   

    منهجٌ درج عليه شعراء المدرسة الرومانسية في الشعر العربي الحديث في إبراز رؤيتهم النقدية لمفهوم الشعر الجديد في مقدمة دواوينهم.  وتعد تجربة جماع الشعرية أنموذجاً رائعاً للإبداع المتناهي في ديوان الشعر العربي في أعمق نماذجه التطبيقية لتلك المدرسة وإن سبقه الرواد في الديوان وأبوللو والرابطة القلمية، وهو في ثنايا شعره يستلهم الجمال المطلق تعبيراً عن حالة الفقد والتشوق، يحلق في عوالم أخرى وأجواء قدسية يزاوج بين الطبيعة وعواطف النفس فتصبح السماء غير السماء لنرى ظواهر المد والجذر بين المحبوبة التي تبدو أمام ناظريه حتى يصبح حضورها خيالاً يلتمسها في عالم الواقع: 

أعلىَ الجمالِ تَغَارَ منَّا ** ماذا علينَا إذا نظرنا

هي نظرة تُنسي الوقار َ** وتسعدُ الرُّوحَ المعنَّى

دنياي أنتِ وفرحتي ** ومُنى الفؤادِ إذَا تَمَنَّى

أَنْتِ السَّمَاءُ بَدَتْ لَنَ ** واستعصمَتْ بَالبُعْدِ عَنَّا

    ولعل هذه العاطفة سمة واضحة في شعره عندما يأتي بصور غاية في الروعة فيتسامى عن واقعه حتى يصبح روحاً شفافاً لا تنتمي إلى عالم المادة؛ لأنه تجاوز عالمنا الحسي المحدود إلى عالم أوسع وأرحب، ولكن سرعان ما يعود إلى عالمه المحسوس الذي تشكل على مجموعة من المآسي الإنسانية فتنطوي في القلب حسرة:

إنا طيفان في ماء سماوي سرينا

واعتصرنا نشوة الحب ولكن ما ارتوينا

إنه الحب فلا تسأل ولا تعتب علينا

كانت الجنة مسرانا فضاعت من يدينا

ثم ضاع الأمس منا وانطوت في النفس حسرة

     وهنا يستبطن البعد الصوفي في شفافيته، لافتاً نظر المتلقي إلى أن يلتمسه في غير اسمه ورسمه حين يتملى تلك المعاني المخبوءة بين حنايا شعره، وكأنما يتمثل المتصوفة في أدبياتهم، حينما تنكشف خصوصية الولي برفع ستر الحجب أمام السالك. فالمعنى في تخيل جماع إبداعي بينما يتعلق بالعرفاني في عرف المتصوفة:  

إن تردني فلن تجدني في اسمي     إنه محـض صـدفة للمسمى

وبرغمي صاحبته في حياتي        وكـذا صورتي فما أنا رسمي

فالتمسني في غير رسمي واسمي   ترني باديـاً وتبصـر وسمي

   نزعة رومانسية مشبوبة بخيال خصيب وعاطفة جياشة تكتسب أهميته إذا خرجنا بالشعر في مضامينه الوجدانية إلى موازنة يجمع بين جماع والشابي من حيث الموهبة الشعرية التي تمثل الرومانسية في سماته وقالبه التشكيلي على عكس ما ذهب إليه النقاد حين يرون في الشابي والتيجاني تناسباً في مضامين ومحتوى هذا المذهب، ولكن التيجاني ليس كما يروق لهم  فقالبه الإبداعي مغرق في القديم وقد مازج بين الرومانسية والرمزية والرؤية الصوفية، وهو أقرب إلى كبار شعراء الصوفية من أمثال السهروردي وابن الفارض. 

  وقد شمل حبه وعطفه سائر الأحياء حتى أنه يرى إن لم تحتضن الأم الحيوان كما تحتضن آلام الإنسان تظل مفتقراً للمعاني الوجدانية والعاطفة الطبيعية للإنسان، وتلك فلسفة معرية المصدر، تفرد بها أبو العلاء المعري من بين شعراء عصره:

وإذا ما سقط الطير الجريح ** وهو مخضوب على الأرض طريح

يضرب الأرض بريش ويصيح ** حـوله زغب من الطير تنوح

وتلمسـت بجنبيـك الجـروح ** فبحـق أنت إنسان….وروح

 بما يمتلكه من حساسية مرهفة وخيال خصب، وصدق في التعبير ودقة في التصوير، وما تفيض به صوره الحية من انفعال بالطبيعة وعشق للجمال وثورة على الظلم ونشدان للحرية كما يتجلى في شعره إنسانية حانية، مشوبة بثورة عارمة على الظلم والقهر متجاوزاً في هذا المنحى مفهوم الفرد والقومية والإقليمية إلى حقيقة الإنسان من حيث هو بنيان الله في الأرض، وفي مخيلته ما يعانيه بني وطنه من ألوان التجني والهوان في ظل المستعمر الغاشم:     

لك جلالي على مر الزمان ** أيها الإنسان في كل مكان

تبتني للحق صرحاً  شامخاً ** فوق أنقاض التجني والهوان

  وترتبط تجارب إدريس جماع الوطنية –عادة- بمضامين الحرية والنزعة الإنسانية، وفي ثناياها يتماهى الذات بالموضوع في نسق شعري منسجم على الرغم من اغترابه من عالم الحس والتماسه عالماً من نسج خياله في تأملاته الوجدانية، ولكنه يستمد من خياله الخصب صوراً قلَّما نجدها في ديوان الشعر العربي، ومن تلك الصور الآخذة بألباب القلوب ما سجله في قصيدته «شاعر الوجدان والأشجان»:

هينٌ تستخفه بسمة الطفل   قوي يصارع الأجيالا 

    وإدريس جماع من أكثر الشعراء السودانيين مزجاً بين عواطفه الذاتية ومشاعره الوطنية في إطارٍ من الطبيعة التي يتم توظيفها في كثير من صوره الشعرية في إبداع فني يجمعُ بين التجديد الخلاق والابتكار الطريف، ممنياً نفسه وأمته بحياة كريمة يسودها الأمن والسلام:

وإذا الأرض طهرت من دماء ومن عداء   لأرتنا رؤى السماء وأرضية الهناء

  وتقف تجاربه الشعرية شاهدة على التحولات الكبرى في الحياة السياسية منذ منتصف القرن المنصرم وما تلاه من حقب، مع نشأة الأحزاب السياسية وتوسع الاتجاهات المدنية والفكرية. ومن أصدق ما قرأته عن شاعرنا جماع تلك الكلمات التي عبَّر بها الدكتور عون الشريف قاسم عن احتفائه بديوان جماع حين صدوره في جريدة الصحافة بتاريخ 29 مارس 1980م:

كان شعره تعبيراً أصيلاً على شفافيته الفائقة التي رسمت لنا الكلمات وأبرزت بجلاء حسه الوطني الذي كاد يغلب على ديوانه تمجيداً؛ للوطن وتغنياً بأمجادها وإذكاءً لروح الثورة في نفوس بنيه ذوداً عن حياضه ومنازلة أعدائه المحتلين والمستعمرين.

   ويستوقفنا جماع أمام اللحظة التاريخية الفارقة، التي ارتفع فيها علم البلاد على سارية المجد المؤثل؛ إيذاناً بانكسار قيد المستعمر وتتويجاً لكفاح الشعب الذي انتزع حريته بعزيمة أبنائه:

عزف السودان لحناً خالداً ** من صدى الفرحة من رفع العلم

ومشى الشعب طليقاً داخلاً ** رحبة التاريخ فالقيد انكسر

 ولعل قصيدته «النشيد القومي» من أقوي قصائده الوطنية دلالة، فهي ثورة على الاستعمار وبث روح الأصالة في جماهير الأمة والتمرد وطلب الحرية، وقد ذهبت بعض أبيات القصيدة على كل لسان كقوله:

هنا صوت يناديني ** نعم لبيك أوطاني

دمي وعزمي وصدري ** كله أضواء إيماني

سأرفع راية المجد ** وابني خير بنياني

    يدعونا جماع إلى توجيه طاقات الأمة إلى البناء وليس التوقف في محطة التحرير والفرحة بجلاء المستعمر، فقد كانت الشعارات حينذاك «تحرير لا تعمير»، وهو ما تنبه له السيد علي الميرغني وقتذاك في كلمته بهذه المناسبة «إن الاستقلال ليس غاية، إنَّما وسيلة للنهوض بالأمة اقتصادياً واجتماعياً».

  كما يلتفت الشاعر إلى آثار الحروب المدمرة لما تحملها من دمامة وقسوة في نفوس الآمنين، فالسلام الاجتماعي والتنمية والبناء يبقى هدفاً عند جماع في قصيدته «جنون الحرب»:

والخائضين الحرب من  أجل المطامع والدماء

ليس الخراب بطولة     إن البطولة في البناء

   ويظل للشعر دفقته من ينابيع التجدد حينما يرسِّخ القيم في كل حقبة يتم استدعاء مضامينها كما الحال في حِكم المتنبي، وثورة الشابي. فالشعر الخالد يجدد قراءة الواقع فنرى شاعرنا جماع كأنما ينظر إلى أفق المستقبل حينما يستلهم تجارب الشعوب لينيل الحرية مع تطور التقنيات الحديثة فيرمز لها بـ»افاق القلم» وكأنه يشير من طرف خفي إلى هذه الحقبة التي تميزت بثورة الشعوب العربية في مواجهة طغاتها في إشارته إلى «طرب الشرق..وغنى عرب.. فشجى حراً بأمريكا النعم»، وما تبع ذلك من احتجاجات في شارع  وول ستريت في نيويورك وفي بريطانيا في مواجهة المؤسسات المالية التي احتكرت وسائل الحياة. 

إنها حرية دافقة تنشل ** الأقطار من لحد العدم

وتغنى حر أوربا بها ** وشعوب من بعيد وأمم

    فالشعر الأصيل يظل ملهماً للشعوب تعبيراً عن لحظات باقية في حياة الفرد، وفي ذاكرة الأمة، ويبقى الشاعر قائداً يتقدم الركب حين يتجاوز واقعه ليحلق في أفق المستقبل المنشود، ولخطورة الكلمة المنظومة وقف المستعمر سداً منيعاً أمام ترديد أناشيده الوطنية، ولكن تظل القصائد التي عبَّرت عن ضمير الشعب راسخاً في الوجدان الجمعي ويذهب الزبد جفاءً ليبقى ما ينفع الناس.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *