أبوشامة

عماد أبوشامة

كاتب صحفي

•  هذا المقال قبل سنة هجرية من اليوم، وقتها ما كنا نظن أو على الأقل نتمنى أن تستمر الحرب سنة أخرى، ولكنها استمرت.. رغم بشريات الانتصارات العظيمة للقوات المسلحة الآن، وقرب انتهاء الحرب في الخرطوم، لكن التشاؤم لا يزال يسيطر بأن نهاية الحرب ومن ثم نهاية الدعم السريع لن تكون في أقل من سنة أخرى على أقل تقدير.

* سنة هجرية بالتمام والكمال عدت على حرب آل دقلو.. نهار هذا اليوم رمضان من العام الماضي اندلعت الحرب.. الكل كان يظن أنها لن تستمر أكثر من أيام تعد على أصابع اليد الواحدة إن لم تكن ساعات.. ولكن..

* كنت أحاول أن أسترجع ذكرى هذا اليوم والأيام التي سبقته.. كانت المؤشرات كلها غريبة وقريبة، كأنك تتذكر ساعات ومواقف وأياماً لشقيق أو صديق مات فجأة، وتركك في عز الصدمة والألم. 

*  الأيام الخمسة  التي سبقت الحرب كلها كانت إفطارات رمضانية في منازل جنرالات الحرب، ومن لهم علاقة بقيادة دفة الأحداث المثيرة. في تالي الأيام… إفطار جماعي في منزل الفريق ياسر العطا.. إفطار في منزل الفريق خلا عبدالرحيم دقلو.. ثم في منزل الفريق الكباشي.. وجبريل إبراهيم.. وإفطار في منزل ومسيد شيخ الأمين.. كانوا كأنهم يودعون منازلهم ويعيشون فيها اللحظات الأخيرة، والغريب كان الزحام غير المعتاد في جميع هذه الإفطارات، ما عدا تقريباً إفطار شيخ الأمين، فالضيوف فيه نوعيون، والأغرب أنه لم يكن بينهم سياسي غير مناوي، وكان هذا يوم الخميس الذي سبق سبت الحرب، ولم ينسَ على طريقته أن يطمن الناس (علي الفاضي) أنهم اقتربوا من نزع فتيل الأزمة بين رئيس مجلس السيادة ونائبه. 

* وكل هذه الإفطارات التي جمعت كل الأطياف السياسية والإعلامية، وكان سوء العلاقة بين برهان وحميدتي قد بلغ مداه، وقوات حميدتي في مروي والجدل يتسع مع كل صباح، ولكن أجواء تلك الإفطارات لم يكن يتخللها شك أو تشاؤم بأن رحى الحرب ستدور، حتى في آخر إفطار كان يوم الجمعة ٢٢ رمضان بمنزل وزير المالية جبريل إبراهيم.. في الهمس الجانبي أغلبهم كان يقول لا تخشوا على السودان، فإنه لن يقع ضحية فتنة تقوده إلى حرب، ولكنه وقع وبأسرع وأسهل مما نتخيل.

* أحد المحللين الكبار قال لي عشية أحد الإفطارات: لا تصدق أن قوات حميدتي ذهبت إلى مروي بكل هذا الحجم دون أمر تحرك.. عسكري صغير لا يمكن أن يسافر لقضاء إجازة مع أسرته دون أمر تحرك.. ما يحدث مسرحية بين البرهان وحميدتي للتنصل من الاتفاق الإطاري بذكاء. وأردف: رسالة ماجستير البرهان العسكرية كانت في الخداع الاستراتيجي، فلا تصدق ما يحدث، فهو تكتيك كاهن كبير ومعلم.

* صراحة أنا صدقت وربما أعجبتني الفكرة، وقلت في سري (خلي القحاطة يشربوا ما يروا).

* تعودنا على السهر الرمضاني في قلب الخرطوم.. تحركت صوب تخوم العاصمة، حيث أسكن شمال الجزيرة.. من بداية شارع الستين في اتجاه شارع مدني، مررت بالضرورة بمسجد سيدة سنهوري، وصوت شيخ الزين وترتيله يشق المكان، والازدحام أمام المسجد الذي يحاول تنظيمه رجال المرور كان فوق العادة.. ما كنت أظنّ أن هذا آخر عهدنا بالخرطوم وعمارها، قبل أن يتركها سكانها للقطط (والشفشافة) كما تنبأ حميدتي.

* وصلت إلى منطقة الباقير حيث اللواء ٢٦ مشاة في حوالي الساعة الثانية والثلث فجر يوم اندلاع الحرب نفسه، وقد هالني ما رأيت أمام المعسكر حقيقة.. فقد كانت كل القوة خارج المعسكر على ظهر التاتشرات والدبابات والمجنزرات، متجهة إلى الخرطوم على جانبي شارع الأسفلت، وأياديهم على الزناد، وكأنهم ينتظرون الأمر بالتحرك، عندها فقط أدركت أن البلاد ما صبحانة على خير.. وهذا المعسكر هو الذي قيل بعد ذلك إنه حدثت فيه خيانة من قائده، حيث تم إفراغه من القوة وقد احتله الدعم السريع بعد ذلك، وهو يسيطر عليه إلى يومنا هذا، ويعتبر من أهم معسكراته جنوب الخرطوم وشمال الجزيرة.

* نمت بعد العشاء والسحور متوجساً، لنستيقظ جميعاً على طموحات حميدتي وشقيقه التي أحالت البلاد إلى خراب وحرب لا نعلم متى تنتهي..

* في منتصف عام ٢٠٢٠م، شعر رئيس هيئة الأركان بخطورة بقاء الدعم السريع في الخرطوم، خاصة أن العلاقة بين القيادات في الطرفين بدأت تسوء يوماً بعد يوم، وتذكرون الحائط الخرصاني الذي بدأ الجيش في بنائه حول القيادة العامة، تحوطاً لاشتباكات قد تقع معهم، بل وصل الأمر – كما أسر لي أحد العسكريين- أن جرى اتفاق مع المخابرات المصرية للتعامل مع الدعم السريع إذا ما حاول الهرب في اتجاه الحدود الليبية للتحالف مع حفتر هناك بعد طردهم من العاصمة بالطبع. ولكن البرهان لم يترك الجيش يمارس العسكرية، فمارس هو السياسة في أبشع صورها، فقام بالوساطة بين رئاسة هيئة أركان الجيش وقيادة الدعم السريع للصلح بينهما، وقد كان وبقي الدعم السريع يتمدد في العاصمة يوماً بعد يوم، حتى طمع في ابتلاع البلاد كلها.

* نواصل.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *