
معتصم تاج السر
كاتب صحفي
• ها هو هلال رمضان يلوح في الأفق ليعلن عن قدوم شهر الرحمة والمغفرة.
ذاك الضيف العزيز الذي يحمل إلينا عبق الذكريات وأريج الليالي المضيئة بالإيمان.
بين يدي رمضان تهدأ الأرواح وتلين القلوب وتتسابق النفوس إلى الطاعة كأنها عائدة إلى أصلها النقي إلى حيث السكينة واليقين.
إنه الزمن الذي تصفو فيه الأرواح وتسمو فتتجدد العهود بين الإنسان وربه وتُغسل الأحزان في ينابيع التسامح والرجاء.
ما إن يقترب رمضان حتى تهب نسائم الذكريات تحملنا إلى ليالٍ عشناها تحت سماء الوطن الحانية.
حين كانت القرى والمدن تتشح بثوب الفرح وتتعالى أصوات التكبير من المآذن فتتجاوب معها القلوب قبل الألسنة.
ذكريات رمضان في السودان عبق المحبة والزهد.
بين يدي رمضان ذكريات مُلئها الشوق وتفاصيل لا تكون إلا في السودان إن لرمضان طعم آخر لا يضاهيه شيء.
حيث يكون الإفطار متميزاً ومختلفاً ومتنوعاً معبراً على تنوع السودان العريق فتكون مثلا الأطباق الأساسية تعبر عن هذا التنوع “العصيدة” و”القراصة” و “الكسرة” ولكن تجمعهم جميعاً “التقلية” التي تعبق برائحة السمن.
وكانت صينية الإفطار ملتقى الأحباب والجيران، وكأنها صلاة في محراب المحبة.
كانت مآدب “البرش” تفرش على الطرقات ويقف الصائمون بأواني الماء والتمر في انتظار عابري السبيل، لا فرق بين غني وفقير، فالكل في حضرة الكرم سواء.
ولا تكتمل أجواء رمضان دون رائحة الآبري “الحلومر” ذلك المشروب السودانية الأصيل.
ملحمة الأبري تحكي قصص الجدات اللواتي كنّ يملأن البيوت بعطر الحنين ورائحة الذكر والدعوات الطيبة.
كانت النساء يستعددن له قبل رمضان بأيام حيث تُجفَّف الذرة وتصنع الرقائق التي ستتحول لاحقاً إلى ذاك المشروب البني الداكن أو الابيض الذي لا يضاهيه أي شراب في طعمه وارتباطه بالمحبة والروحانية.
كان الزهد سمة الشهر الكريم فرغم ما تزخر به الموائد كان الناس يكتفون بالقليل يقسمون رزقهم مع غيرهم ويؤثرون الآخرين على أنفسهم في تجسيدٍ صادق لمعاني التكافل والتراحم.
بين يدي رمضان يتملكني حنينٌ إلى الأهل والمساجد والأصدقاء.
فكم أشتاق إلى جيراني إلى ذلك التقارب الروحي الذي كانت تصنعه ليالي رمضان.
إلى مسجدنا في الحي حيث كانت القلوب تلتقي قبل الأجساد.
وإلى عبق المساجد، حيث تمتزج رائحة السجاد العتيق بالذكر والدعاء حيث الركعات الطويلة والخشوع العميق وحيث ذلك الصوت الشجي للإمام الذي يقرأ القرآن كأنه يخاطب القلوب قبل الآذان.
كم أشتاق إلى أصدقائي والأحباب إلى حواراتنا التي لا تنتهي حول أي مسجد سنذهب إليه لأداء التهجد..؟
وأي إمام سنستمتع بصوته الليلة…؟
كنا نناقش بلهفة وشوق كأننا في رحلة بحث عن طمأنينة أرواحنا.
نتنقل بين المساجد كأننا نطوف في عالم من النور نرتشف من كل قارئ نغمة ومن كل ركعة لحظة سكينة.
رمضان كان لنا موعداً مع الروح مع الصفاء مع تلك الليالي التي كنا ننتظرها بلهفة وكأنها عناق بين القلب والسماء.
لكن أين نحن اليوم من تلك الليالي؟
أين رمضان الذي كان يجمع القلوب قبل الموائد؟
أهو لا يزال هناك في الأزقة القديمة، في طين البيوت التي هدمتها الحرب، أم أنه صار ذكرى تأبى أن تُمحى..؟
جاء رمضان الثالث ومازال وطني جريحاً.
اللهم إن لنا وطناً أنهكته الحروب وأبناءً شردتهم النيران، وأمهات باتت أعينهن معلقة بالسماء في انتظار رحمة تنقذ أبناءهن والوطن.
اللهم في هذا الشهر الكريم، نسألك أن تُطفئ نار الحرب في بلادنا وأن تعيد إلينا الأمن والأمان الذي افتقدناه وأن تجمع أبناء السودان على كلمة سواء لا ظلم فيها ولا فرقة وأن تعيد النازحين إلى ديارهم، بسلام كما خرجوا بل وأعزّ مما كانوا.
اللهم إن رمضان هو شهر البركة والرحمة، فاجعل رحمتك تفيض على كل مظلوم، وبارك في أرزاق من انقطعت بهم السبل، واجبر كسر الأمهات الثكالى، وأمسح دموع الأطفال الذين لم يعرفوا من الحياة سوى النزوح والجوع والخوف.
اللهم يا من قلتَ “ادعوني أستجب لكم”، نرفع أكفنا في هذه الليالي المباركة ونسألك بقلوب مفعمة بالأمل رغم الألم وأن تجعل لبلادنا مخرجاً من هذا التيه وأن تضيء لنا درباً نحو السلام فإنك على كل شيء قدير.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمدلله رب العالمين
رمضان كريم
مبارك عليكم الشهر.
محبتي والسلام
شارك المقال