بقلم: محمد عبدالقادر محمد أحمد
• في القاهرة حيث تقف المدن على أرجل من تاريخ وعلى أكتاف من ذاكرة تستعد اللجنة القومية لتكريم الباشمهندس المستشار عوض الكريم محمد أحمد عبدالرحيم لحدث لا يشبه الاحتفالات المألوفة، بقدر ما يشبه تصحيحاً متأخراً لميزان ظلّ مختلاً لسنوات طويلة. فالاحتفاء به ليس مجاملة، ولا مناسبة اجتماعية، ولا لحظة عابرة في سجل الأيام… بل هو نوع من ردّ الدين، دينٍ تراكم عبر أكثر من نصف قرن لرجل ظلّ يعمل بصمت عالٍ، ويُنجز دون أن يلتفت، ويثبت دون أن يُلوّح، ويخدم وطنه كما يخدم الأب أبناءه بواجب لا يطلب عليه شكراً.
واللجنة القومية وهي تُعلن عن تكريمه في القاهرة، إنما تعلن عن شيء أبعد من الاحتفال، وأقرب إلى الاعتراف. اعتراف بأنّ الباشمهنس عوض الكريم ليس مجرد فرد في حقل المهنة، ولا مجرد اسم في سجلات السياسة، بل هو واحد من القلائل الذين يشبهون السيرة أكثر مما يشبهون المناصب و يشبهون البناء أكثر مما يشبهون الوجاهة… ويشبهون الوطن أكثر مما يشبهون الحكومات التي مرّت عليه.

ناوا: الجزيرة الذي يبدأ منه الضوء
السيرة لا تبدأ في الجامعة ولا في المكتب ولا في الأدوار العامّة، تبدأ من ناوا. و”ناوا“ ليست مكاناً في الجغرافيا فحسب، بل طبقة من التكوين تُعلّم أبناءها أن يستقيموا قبل أن يتعلموا، وأن يكون العلم سلوكاً قبل أن يكون شهادة. وهناك وُلد عوض الكريم في أسرة تعرف قيمة التعليم والعمل والانضباط، لكنها وجدت في ابنها الأكبر “عموداً” تستند عليه الأدوار. وامتد عطاؤها حتى صار اسمها معروفاً في المؤسسات والجامعات والحقول المهنية داخل السودان وخارجه.أسرة لا تخلو مجالاً من بصمة، في الطب ، في الصيدلة ،في القضاء، في التدريس، في الإدارة، في الهندسة، في اللغات، في العمل العام… ومن بينهم أحفاد وأبناءٌ برزوا في عواصم العالم كما برزوا في الخرطوم.
والغرس الأول في بيت الباشمهندس عوض الكريم يظلّ هو الغرس الأبقى بأن تكون نافعاً، وأن لا تحيد عن الطريق، وأن تحترم الناس كما لو كانوا جزءاً من واجبك الشخصي… وأن تترك وراءك أسرة تكبر في كل اتجاه.
من أدنبرة إلى الخرطوم… ومن الخرائط إلى تأسيس عقل هندسي
من مدارس الديم شرق والخرطوم الأميرية والخرطوم الثانوية، وصل إلى جامعة الخرطوم، بدأ بالعلوم ثم جذبه البناء إلى كلية الهندسة ليتخرج بدرجة الشرف في العمارة، ويحمل بعدها شغفه إلى جامعة أدنبرة بالمملكة المتحدة حيث نال دراساته العليا في التخطيط العمراني للدول النامية. وحين عاد إلى السودان، لم يعد بخبرة يضيفها إلى سيرته، بل عاد بمشروع.
و في مهنة لا يثبت فيها إلا القليل، كان الباشمهندس عوض الكريم من القلائل الذين صاغوا مدرسة هندسية قائمة بذاتها.
فمن خلال شركة كاربلن الهندسية، أسهم مع رفقاء عمره في التخطيط والتصميم والإشراف على مشاريع تمتد من العاصمة إلى أطراف السودان ومن الوزارات والمقار السيادية، إلى الأبراج، إلى الجامعات، إلى الأحياء الجديدة، إلى المؤسسات المالية… قائمة طويلة لا تنتهي، ويصعب في مقال واحد حصر نصفها.
لكن الأهم من كل ذلك، أن الرجل لم يكن “مهندس مشاريع”، بل مهندس منهج. وكل من عمل تحت يده يشهد بذلك. فمن شهادات من عملوا معه، تكاد الجملة تتكرر كما لو أنها عهد: «كان يعاملنا كأبنائه، لا كموظفين»
«يعلّم بالتفصيل، ويقود بالسكينة، ويحاسب بالعدل، ويعامل موظفيه كما لو أنهم أبناؤه»
“… وكان يقول لي كلما غضبت: أنت زي أبو الدقيق!”
بل قال أحدهم: “علّمني أنّ المهنة مسؤولية تجاه حياة الناس، لا ورشةً تُغلق عند نهاية الدوام.”
وقد يكون أجمل ما قيل فيه، تلك الشهادة التي تكاد تختصر خمسين عاماً من العمل: دخلنا عليه موظفين… وخرجنا من حوله رجالاً يعرفون معنى الواجب» وهذا هو مكمن العظمة المهنية التي لا تُشترى بأن يشيّد المهندس نهجاً قبل أن يشيّد مبنى، وأن يترك خلفه أجيالاً من المهنيين لا يقلّون عنه حرصاً على الأمانة ولا احتراماً للمهنة

سيرة سياسية لا تُؤرّخ بالمناصب… بل بالمواقف
ليست سيرة الباشمهندس عوض الكريم سيرة سياسي محترف يتنقل بين المنابر فالرجل من أولئك الذين لا يدخلون الفعل الوطني من باب الصورة، بل من باب الواجب… ومن هذا الباب دخل إلى قلب لحظة مفصلية من تاريخ السودان.
كان عضواً فاعلاً في الحركة النقابية المهنية، ثم أصبح الأمين العام للتجمع النقابي، وهو الموقع الذي جعله في قلب مطبخ انتفاضة أبريل 1985، الانتفاضة التي لم تُصنع في الشوارع وحدها، بل صُنعت في غرف مغلقة، واتصالات دقيقة، وحرص أمني يشبه المشي على حافة السكين.
ما وثّقه الصحفي عثمان ميرغني… شهادة من الخارج
الاستاذ عثمان ميرغني، وهو ممن وثّقوا أحد شهادات الباشمهندس عوض الكريم من موقع قريب، وأشار إلى شهادات عوض الكريم كواحدة من “أدقّ” ما وصل إليه من روايات، خاصة ما يتصل بالأيام الأخيرة قبل سقوط النظام، والاجتماعات التي دارت مع قيادات الجيش، ومسارات الضغط، والتقديرات التي أحاطت بسقوط مايو.
أما ما رواه البا شمهندس عوض الكريم بنفسه عن اجتماعات القيادة العامة فهو فصل آخر… فصل لا يمكن الاعتداء عليه بالاختصار: وهنا اقتبس بعض من ما جاء في أحد مذكراته..
«بعد إنتهاء أجتماع التجمع الوطني الليلي الإسبوعي خلال يونيو 1985م أي بعد المعركة, وجدت في إنتظاري الأستاذ أمين مكي مدني وزير الأشغال واللواء عثمان عبدالله وزير الدفاع ورئيس اللجنة السياسية, وكانا أكثر أعضاء مجلس الوزراء حرصا علي حل قضية جنوب الوطن وإنحيازاً للتجمع النقابي, حيث حدثاني عن مخطط الكيزان وبعض أعضاء المجلس العسكري لإستغلال المعركة لتشويه سمعة التجمع النقابي وتعقيد حل قضية جنوب الوطن وطلبا مني ضرورة التحدث مع إبراهيم يوسف الجعلي قائد سلاح المظلات وعضواللجنة السياسية للمجلس العسكري فشكرتهما.
عليه قمت في صباح تلك الليلة بالإتصال به ورحب بحراره بلقائي في القيادة العامة للقوات المسلحة في اليوم الذي يليه.
و بما أنني كنت علي علم بأن المعركة بين الجيش والحركة الشعبية إستشهد فيها عدد من ضباط الجيش وأصيب فيها عدد كبير من الجنود وأتوا بهم لمستشفي أمدرمان العسكري «لأول مرة «² وفتحوا الزيارة لصحفييهم وأعلامييهم ليشنوا حملة إعلامية شعواء علي قيادة التجمع النقابي بأنهم ضد الجيش الوطني ومنحازين للحركة الشعبية, عليه رتبت أفكاري للتصدي للإتهام في الإجتماع.
عند وصولي في الموعد المحدد لمدخل القيادة العامة, قادني أحد الحراس إلي مكتب اللواء إبراهيم يوسف طه الجعلي.وعند دخولي المكتب وجدت عدد من ضباط الأسلحة المختلفة جالسين بجانبي طاولة الإجتماعات وجلس هو في رأس الطاولة وأنا في الجانب المقابل له, وبدأ اللواء بالترحيب بي كأمين عام للتجمع النقابي, ثم بدء الحديث عن المعركة بين الجيش الوطني والحركة الشعبية التي أشرت إليها , مبدياً أسفه الشديد لإنحياز التجمع النقابي للحركة الشعبية وضد الجيش الوطني مما يضعف الروح القتالية للجيش.
فتصديت مباشرة للاتهام قائلاً نحن في التجمع النقابي نعم منحازين لوحدة الوطن تراباً وشعباً, فمنذ عام 1955م وحتي اليوم 1985م أي خلال ثلاثين عاماً ظلت الحرب مستعرة تحصد أرواح سودانية غالية من الطرفين وتأكل إمكاناتنا الضعيفة وبما أن الطرف الآخر أصبح له جهات تموله كما تعلمون, فلن ينجح أي طرف في هزيمة الآخر فالحل الاستراتيجي للأمن والسلام يكمن في حل قضية جنوب الوطن كما نص عليه ميثاقنا وكما جاء في مهام المرحلة الإنتقالية.
أما من الناحية الثانية يبدو أنكم لا تضطلعون علي أدبيات التجمع النقابي, فقد أصدرنا بياناً يدين ما تم في المعركة وطالبنا فيه السلطة الإنتقالية بوضع مخطط لتأهيل الجيش الوطني أفراداً وعتاداً كأسبقية عاجلة, ليس فقط لما يجري في جنوب الوطن بل هو المسئول أولاً عن حماية حدودنا المشتركة مع عدة دول, كما أن هنالك بوادر معارك في ولاية دارفور والشرق … الخ يمكن أن تشتعل مما يجعل تأهيله أسبقية قصوي.
خلال التصدي المباشر ظل اللواء مقاطعاً من وقت لآخر وظل مستمعاً خلال ماجاء ثانياً, وهنا تدخل ضابط يجلس يميني دون إستئذان منتفخاً داخل سترته العسكرية, متهماً التجمع النقابي بأنه مجموعة من الشيوعيين ضد الجيش ومهدداً يا… يا… ويا نحن ننط فيها.
وعندها قلت له أنت تهدد بإنقلاب أمام اللواء الجعلي عضو المجلس العسكري وأمامي أنا الأمين العام للتجمع النقابي فالأمر يستحق المسائلة العاجلة, عندها هبط الانتفاخ وسألت عن أسمه فجاء الرد من الآخرين إنه عمر حسن أحمد البشير عقيد بسلاح المظلات.
بعد خروجي من القيادة وعند وصولي المكتب إتصلت بوزير الدفاع عثمان عبد الله والأستاذ أمين مكي وأخطرت قيادة التجمع الوطني بشقيه النقابي والسياسيي وإنتشر الخبر.ثم إتصل بي عضو المجلس ومساعد القائد العام الفريق محمد توفيق خليل للتأكد من صحة الخبر وعلمت أن المجلس قد قرر نقله للقوات المرابطة بالجنوب.
واضح أن ما قاله البشير كان مؤشراً بأن الكيزان ظلوا يخططون للانقلاب علي الإنتفاضة بل ظلت قيادات الكيزان تنادي بقنطار ذهب للجيش وشبابه وشاباته ظلوا في مسيرات في ليالي رمضان يهتفون «جيش محمد سوف يعود», ولكن ظل أمن رئيس الوزراء غافلاً حتي حلت الكارثة.»
ومن ضمن إسهاماته في الزمن القريب، كان انخراطه في تضامن قوى المجتمع السوداني، ذلك الجسم الذي وُلد خارج ضوضاء الأحزاب وداخل مساحة الوطن الخالص، وكان هو أحد أعمدته الراسخة. جلس مع رفاق دربه وفي مقدمتهم كبير الجرّاحين الراحل الدكتور شاكر زين العابدين رحمه الله يصوغون وثيقة دستورية نقيّة، كتبوها بعقل البلد لا بعقل المحاصصة، وبضمير المهنة لا بصفقات الظل. وثيقةٌ كانت تصلح أن تكون بداية دولة جديدة… لكنها، كغيرها من محاولات العقل، وُضعت في الأدراج. ثم خرجت بعدها إلى العلن “وثيقةٌ أخرى”، معطوبةً في تركيبها، ناقصةً في نغلها، لا تشبه تلك التي سهرت لها تلك المجموعة النادرة التي جمعت السياسية إلى الأخلاق، والخبرة إلى النزاهة.
ولستُ أنسى في تلك الليالي التي تشرفت فيها بالجلوس إلى جوارهم أنني كنت من المحظوظين الذين شهدوا تلك المداولات.

شهادات الناس… المرآة التي لا تكذب
على امتداد سنواته الطويلة، ظلّ الناس يتحدثون عنه بالطريقة نفسها، رغم اختلاف أعمالهم وأعمارهم وأماكنهم.
قالوا:
“رجلٌ بقامة وطن، لا مصلحة له إلا البلد.” “سياسي لا يشبه السياسيين… يمارس السياسة كواجب لا كصفقة.” “معلمٌ صبورٌ ربّى جيلاً كاملاً من المهندسين.” “الأب قبل المدير… والسند قبل الرئيس.” “نزيهٌ حتى في التفاصيل التي لا يراها أحد.” “عملت معه فوجدته مدرسة، وتعلمت منه ما لم أتعلمه في الجامعة.” “ابن ناوا البار… رفع رأسنا.”
وتتفق الشهادات على اختلافها في وصفٍ واحد: أنك أمام رجل لم يتغيّر رغم تغيّر الزمان
فاطمة… الشاهدة الصامتة
خلف هذه السيرة الممتدة، تقف امرأةٌ لا تتصدر الصورة، لكنها تحمل نصفها: فاطمة عبدالله عبدالرحيم.زوجة حافظت على استقامة البيت كما حافظ هو على استقامة الموقف… لا تُكثر الكلام لكنها كانت الصف كله حين احتاج الأمر. وفي شهور أعتقال الباشمهندس عوض الكريم بكوبر في ظل حكومة الانقاذ، كانت هي الثبات الوحيد وسط الفوضى.
ختاماً،،
اليوم، وهيئات مهنية وكيانات نقابية وشخصيات وطنية تستعد لمشاركته لحظة التكريم في القاهرة، فإنها لا تحتفي بماض انقضى، بل تعترف بقيمة ما زالت حيّة… قيمة رجل لو وُضع في كفة ووُضع كثير ممن تعاقبوا على السلطة في الكفة الأخرى، لرجحت كفّته دون جهد.
و من الأسرة الكبيرة… من أهل ناوا… من زملائه وتلاميذه وابناؤه … ومن الذين عرفوه ولمسوا أثره… نقول له اليوم:إن هذا الاحتفاء ليس نهاية مشوار، بل بداية كتابة سيرة تستحق أن تُروى للأجيال.
شارك المقال
