رحلة إلى المجهول

د. خالد مصطفى *
* كاتب صحفي.
هي قرية آمنة مطمئنة من قرى جنوب كردفان، لا تذكرها الحكومة إلا أيام الانتخابات، حيث يأتون طلباً لأصواتهم، وبالمقابل يقدِّمون لهم الوعود الزائفة، نفس الوعود التي تتكرر في كل دورة انتخابية، حتى إن أهل القرية أصبحوا يحفظونها عن ظهر قلب. (ولكن لا بأس، فلتكذب الحكومة كما يحلو لها، فطالما السماء تمطر فلا حاجة لنا بالحكومة – على الأقل لن نموت جوعاً).. هكذا يقولون.
ولكن خريف هذا العام (2012) أتى على غير العادة، فعندما كان الناس في شهر يونيو ينتظرون السماء أن تمطر ماءً، إذا بها تمطر قنابل عبر طائرات الانتينوف، قنابل كأنها (حجارة من سجيل).
إنها الحرب… تباً للحرب وتب…
ذلك اليوم كان سيمرُّ عادياً كأيّ يوم في القرية، الأطفال في المدارس، المزارعون في المزارع والحقول، الرعاة في الوادي، والنساء بين الطهي وجلب الماء والحطب… ولكن حدث شيء غريب، فما أن انتهى أهل القرية من شرب الشاي والقهوة، وتوجهوا نحو أعمالهم المعتادة، حتى بدأ الرصاص ينهمر عليهم من كل حدب وصوب، وأصوات المدافع والرشاشات تشقُّ عنان السماء…
تحصّنوا بمنازلهم فترة من الزمن – ولا يزال الاشتباك مستمراً بين الحكومة والمعارضة المسلحة – والطيران لا محالة قادم – بعد قليل ستتدمر القرية!!
(إذن لا بدَّ أن نخرج من القرية، صحيح أن بعضنا سيموت، ولكن حتماً لن نموت كلنا، سيبقى بعضنا «تيراب» ليعمر القرية من جديد). هكذا تقرر الرحيل…
وهكذا خرج الناس من القرية وسط زخات الرصاص الذي لا يرحم – خرجوا كما جاءوا إلى هذه الدنيا لا أحد يملك شيئاً، حتى إن كثيراً منهم خرج فقط بملابسه الداخلية… وبينما هم سائرون في الطريق – تساءلوا – إلى أين سنذهب؟!
عندها – أحسّوا بعظم الفاجعة (نحن فقط فارُّون من هذا الجحيم المسمى بالحرب، فلنذهب حتى تنتهي «الواطه» أو نجد مكاناً نطمئن له…
والأطفال – وبرغم الإرهاق والتعب الذي كان يبدو عليهم – إلا أنهم تساءلوا أيضاً:
حبوبة لي شنو ما جات معانا؟!
وحبوبة (الجدة العزيزة) تلك المرأة ذات الثمانين ربيعاً، والتي هي محور تماسك الأسرة، تهدي الأطفال الحكاوي الجميلة. وتزوِّد الكبار بالحكمة – قد أعلنت موقفها الواضح والصريح قبل الرحيل: (إنتو يعني حتمشوا لي حته ما فيها موت!؟ أيّ مكان في الدنيا دي فيهو موت، وموت لي موت أحسن أموت في بيتي دا وفي أرض جدي، أنا ذاتي ما فضل لي كتير – أمشوا إنتو الزمن زمنكم، أمرقوا الشفع ديل، أنحنا زمنا كمل…). ورجعت إلى بيتها بإصرار وعناد من خبر الحياة ستين عاماً ونيف. ولكن لا وقت للجدال – سنرجع ليكي يا حبوبة بعد ما نمرق الشفع – سلام.
وبعد عشرات الكيلومترات من المشي المتواصل، وفي أثناء هذا المشوار الطويل – وضعت كل ذات حمل حملها من شدة الخوف – وبعد أن هدأ صوت الرصاص قليلاً، جلس أهل القرية يستريحون ويفكرون في مصيرهم – نعمل شنو يا جماعة؟!
قال أحدهم: (نمشي نشوف لينا محل نقعد فيهو، يمكن الكفار ديل يجيبوا لينا إغاثة – أو يجونا مسئولين من ناس الحكومة يشوفوا لينا حل).
فيرد عليه آخر: (هو عليك الله في كافر أكتر من الجوع دا – بعدين المسعولين ديل أحسن ما يجونا – لو جونا احتمال يقولوا دايرين رسوم نزوح وتشرد! – «الحكومة دي ذي تيس فاطنه»).
وشيخ الحلة الذي ظل صامتاً طوال فترة الرحلة يخرج من صمته: (لا حول ولا قوة إلا بالله – المصيبة دي جاتنا من وين؟! – هسع أنحنا أصبحنا في الخلاء – والبهائم طشّت مع الضرب – والعيش الفي البيوت حرق – ومافي طريقة للزراعة السنة دي – أمرنا لله).
حيث إن أهل القرية يعتمدون في اقتصادهم ومعيشتهم على الزراعة والرعي، والآن لا زراعة، لا رعي، لا مأوى، لا مسكن… لا شيء غير المعاناة.