

بقلم: د.إشراقة مصطفى حامد
• المكان:
قاعة الاحتفالات ببلدية فيينا.
الزمان: 21 اكتوبر 2020
المناسبة:
حصولي على الميدالية الذهبية، اعترافًا من العاصمة النمساوية بمسيرتي وانخراطي في المجتمع النمساوي.
لمعت دموع الإصرار… والانتصار… ولم ولن أنسى تلك الأيام التي عملتُ فيها عاملة نظافة في فيينا. لا يزال صوت المدير الإداري لأحد المطاعم التي نظّفتها يتردد في ذاكرتي: «أعيدي تنظيف هذا المكان!»
كان المكان نظيفًا بالفعل، تركته يلمع، ولكن
أعدته بصبر، بإصرار، بعزيمة… كنت واثقة أن يومًا ما سأصبح ما أريد. كان عملًا كريمًا وعابرًا، جسرًا نحو غدي، شهق في داخلي بإحساس النفس العزيزة. يومها كنتُ حبلى في شهري الثالث، أحمل باكورة فرحتي بالأمومة.
تذكّرتُها تصرخ بي أن أنظّف البيت حين ينام الصغير الذي كنت أرعاه في غيابها… لم أحتجّ يومها، ولم أنكسر. لم يكن الأمر مختلفًا كثيرًا… طالما كان هناك مقابل، مقابلٌ يعينهم هناك، في الديار البعيدة.
. تذكّرتُ في تلك اللحظة بيعي للسندويشات أثناء دراستي للدبلوم العالي في الإعلام، في بلادي التي جار عليها حكّامها كما جاروا علينا، وأجبرونا على دفع ثمن وعينا ونشاطنا السياسي… لستُ وحدي، هناك الآلاف!
تذكّرتُ كلَّ الأعمال الهامشية التي مررتُ بها، بدءًا من توزيع الإعلانات في هزيع البرد أمام جامعة فيينا، التي منها بدأت موزعة اعلانات الى محاضرة غير متفرغة فيها، مرورًا بتنظيف السكن الطلابي في هولابرون، وما زالت أصابعي مخضّبةً بحنّاء العرس، أوفّر منها ما يسدّ إيجار السكن، فهناك في الديار البعيدة في الإنتظار.
لا ضير أن همستُ لدموعي بالصبر، لحين يتوارى النهار، فأطلقها نارًا ولهيبًا في مآقيّ الليل.
لا ضير طالما لم أمدَّ يدي لأحد، طالما كانت هذه التجارب دروسًا سأتعلّم منها الكثير، وأفهم عبرها عذابات من عملن في بيوت الأثرياء بالسودان، من السودانيات المنسيات، وجميلات القرن الإفريقي من إثيوبيا وإريتريا.
لا ضير أن سمعتها في أحد البيوت الفيناوية الراقية، ذات الطوابق الثلاثة، والطابق السفلي، والحديقة الواسعة، تقول لابنها: «تأكّد أنها أخذت الزبالة.» لا ضير… فقد نظّفتها، لكن خيالي كان هناك، حيث حديقة التيجاني يوسف بشير، يمنحني القوة والقدرة على التعامل مع واقعي بمرونة.
لا ضير ان ابكي في تلك الساحة جالسة على مقعد خشبي على الرصيف عليها نثار الثلج وصفق تناثر تاركا الاشجار امه في عريها تتدثر بدفء الجليد..
ابتسمت بمرارة لصدى صوتها وهي تشرح لي كيف أستخدم الثلاجة والمايكروويف. لم تكن نمساوية ولا أوروبية، بل كانت تتحدث مثلي العربية وتؤمن بالإسلام الرحيم. يومها قالت لي: «لا تأكلي من غير إذني، وستحصلين على طبق من الطعام!» لم تكن تعلم أنني تمرنت على الجوع كما تمرنت على عطشي للمعرفة. تمرنت على أن أكون عزيزة النفس وأكتفي بما منحته لي الأشجار الرحيمة من التفاح والبرتقال في حديقة المبنى العتيق… مع العلم أنني لا أحب سوى المانجو، النبق، القنقليز، ورائحة شجر الحناء!!
لا ضير أن نظّفتُ الحمّامات، عطّرتها، وحفظت أسماء المنظّفات باللغة الألمانية… ما أعظم المعرفة النابعة من الألم والأمل.
لا ضير أن أفعل كل ذلك… فقد فعله قبلي مَن ظلمتهم الأنظمة، وصوتُ الصغار يركض خلفهم، هاتفًا: «عيفونة سلطة بليمونة!» أتدركون الآن الأسباب المتجذّرة لهذه الحروب التي لا نهاية لها؟
شريطٌ سينمائيّ مرّ أمامي وأنا أقف في قاعة بلدية فيينا، أستلم ميداليتي الذهبية، الميدالية الأعلى لامرأة سودانية لم ولن تنسَ دموع أمّها وجدّاتها، وهنّ يعوسن الكسرة… رزقًا كريمًا، دموع حطب العواسة! لن أنساها… الصبيّة، بائعة التسالي، السودانية حتى النخاع، التي نُحتَ قلبي من الظلم الذي حاق بها وبِي، رغم ما حظيتُ به من امتيازات…. و ( فول مدمس) يدندن في القاعة….وحدي كنت اراها وبذات الإبتسامة الصبوحة والقناعة المرسومة على وجهها.
لماذا لم تكن معي في صفوف الدرس؟
لن أنساها… تعود كل ليل بمليون انكسار، ودموعٍ حبيسة، وصدى أغنية في ذاكرتي
: «وأزور بيت الخياطة…»
لن أنساه… يغسل الملابس في أحياء مترفة، ويعود منهكًا، وآهة تركت في عقلي الصغير ألف جرح وسؤال!
لن أنساه… يخطو بأحذيتنا المتهالكة في دروب الحياة… كلّه لأجل الرزق الكريم.
أين كنتُ؟
هنا، في قلب فيينا، في قلب برلمان العاصمة، أبتسم لاعترافٍ عظيم لم يأتِ إلا بالصبر والمثابرة، بالأمل والإيمان بقدرات نساءٍ عظيمات، غرسن في دربي قيمة العمل الكريم!
ابتسم قلبي، شاكرًا كل من منحوني فرصة أن أنظّف بيوتهم، أطفالهم، وحدائقهم… الأطفال، حدائق الحياة!
أبتسم، ورأسي مرفوع… لم أدفنه يومًا في رمال التغييب وسؤال الاستنكار:
«هو نحنا عندنا بنات بيشتغلن في البيوت؟»
نعم… هناك، وهنا، غير مرئيات، منسيات… وصوتي لأجلهن، لأجل عاملات المنازل، لأجل بائعات الأطعمة، صانعات القهوة والأمزجة… وزنجبيلها ذاكرة وحاضر!
أنا هنا… بكل ما حملته ذاكرتي من تفاصيل، بكل لحظة مرّت عليّ، من الغبار الذي أزلته عن النوافذ والستائر الحريرية، إلى رائحة الصابون المعطر والجبن التي قطعتها بيدي. والملابس التي نشرتها وكويتها ولم ترحمني سوى سؤاله وهو يكوى هناك في بيوت الاثرياء…آمنت. بخطواتي التي لم تكن لتستمر إلا بتعثرات عديدة… أنا هنا، (منتصرة وعنيدة)!!
فيينا 16 مارس 2025
شارك المقال