(درداقة الأحلام).. قلوب تسير في دروب الصمود

48
Muatasim Taj Elsir

معتصم تاج السر

كاتب صحفي

• تحت شمس السودان التي حرارتها مثل قلوب أهلهِ، وفي طرقات موحلة برمال الفقد والمعاناة تمضي نساء نازحات بخطى مثقلة، لكن بقلوب عامرة بالأمل.

درداقة صغيرة ذات عجل واحد، بالكاد تحتمل ثقل الجركانة المليئة بالماء، تئن تحت وطأة هذا الحمل لكنها تسير، تمضي وتتحدى وعورة الطريق، تماماً كما تفعل قلوب من يدفعْنها.

إنها ليست مجرد درداقة تحمل جركانة ماء..!

إنها سفينة تحمل الأمل في الحياة، تمخر عباب اليأس لتروي أحواض الخضروات التي صارت أملاً وحيداً في وجه الجوع. 

كل قطرة ماء تنسكب على التربة هي وعد بمستقبل أفضل، وكل يد نازحة تمسك بالمقبض الصدئ للدرداقة، تمسك معه بحِلم المستقبل في البقاء وبالحياة رغم كل الألم.

سوف أسرد لكم ملحمة من الملاحم البطولية في هذا السودان العظيم، في إحدى مدارس مدينة أم درمان «الثورات»، حيث أصبحت داراً لإيواء بعض الأسر النازحة.

تجتمع النساء كل صباح في فناء المدرسة، الذي لم يعد يعجّ بصخب التلاميذ…! 

بل صار مسكناً للأمل، وصوتاً لصبر الأمهات. 

في ذلك المكان، حيث امتزجت أحلام الطفولة المهجّرة بأنين الحاجة والمسغبة، يجتمعن لمناقشة همومهنَّ في توفير الغذاء لأسرهنَّ. في خِضم همومهنَّ قررت مبادرة بنك البذور عبر فريقها على الأرض، الذي تقوده سيدة من عظيمات الحركة وأخريات، قررن إن الحياة يجب ألا تتوقف، وأن الضراع الأخضر فوق يد القتل والتشريد والنزوح. 

فجاء الاقتراح لزراعة أحواض للخضروات داخل مركز الإيواء هذا. 

إن حركة السودان الأخضر، التي سعت دائماً لتخفيف معاناة النازحين في السودان، وفرت لهؤلاء النسوة بعض المعدات البسيطة، وبذوراً ليبدأن حِلمهنَّ في سد حوجة أطفالهنَّ، فإنهنَّ المتعففات اللاتي يسعين إلى كسب قوتهنَّ بعرق الجبين.

ولكن حلمهنَّ الصغير في سد جوع وفاقة أسرهنَّ وقفت أمامه عقبة كبيرة، حين ضنّت مواسير الماء بالجودِ بقطرات ولو قليلة لتروي القلوب قبل الزرع.

عندها اضطررن للبحث عن شراء الماء عبر تنكر أو عربة يجرها حمار «كارو»، بعد أن تم توفير مبلغ مالي للماء من إحدى كنداكات الحركة وعظيمة من عظيمات السودان. 

ولكن حتى هذه الحلول لم تكن متاحة.

ليجدن أنفسهنَّ أمام خيار أخير لإنقاذ الزرع، لأنه هو الأمل المتبقي في حماية أسرهنَّ من الجوع والمسغبة.

فكان الخيار هو نقل الماء بأنفسهنَّ عبر جركانات يضعنها في درداقة مؤجرة، يسحبنها مسافات طويلة وصولاً إلى دار الإيواء..!!

أي حال أوصلونا إليه..!؟ أن تُشترى الجركانة الفارغة بمبلغ…! 

ويُشترى الماء الذي يُصبُّ فيها بمبلغ آخر..!

وأن يتم نقلها بواسطة درداقة مؤجرة أيضاً…!!؟ 

يا للسخرية، نحن بلد يشقّه أعذب الأنهار النيل الخالد من جنوبه إلى شماله، بلد تأتيه المياه العذبة صباحاً وعشيةً من أنهارٍ تجري، وعيونٍ تتفجر، وسماءٍ تنتحب بخريفٍ يروي أرضه سهولاً وجبالاً. 

أي خراب هذا…؟ وأي مجهول أسلمتنا له هذه الحرب..؟

أي ذنب لهذا الشعب، حتى يذوق كل هذه الويلات، وأن يصبح الماء الذي كان حقاً للجميع سلعةً تباع وتشترى..؟ 

ولكن هيهات…! 

هيهات لشعبٍ استطاعت نساؤه إنبات زرعٍ بماء جركانة، منقولة على درداقة أو محمولةً فوق الأعناق، أن ينهزم. 

إن هذه الأرض لن تموت، وأهلها لن ينكسروا، وما دام فيهم نبض فإن الخضرة ستنبت من قلب الرماد، وسيظل الأمل مزهراً مهما اشتدَّ الجفاف.

التحية لنساء السودان في هذه الحرب، أولئك اللاتي وقفن كالأشجار الوارفة، يمنحن الحياة رغم الجفاف، ويسكبن الحنان رغم الألم، ويزرعن الأمل وسط الركام. 

نساء لم تهزمهنَّ النيران، ولم تكسرهنَّ المحن، بل ازددن صلابة كجبال النوبة، ونقاءً كالنيل.

لن تزيدهنَّ المحن إلا لمعاناً كالذهب المجمر وزيادة.

والتحية موصولة ومخصوصة للخُضراوات من عضوية حركة السودان الأخضر، اللاتي لم يتسع المقال لذكرهنَّ، لكن سيتسع صدر هذا التاريخ ليسطر بمِدَاد أخضر على صفحات من ذهب بطولاتهنَّ، لأنهنَّ اللاتي قدمن ولم يستبقين شيئاً، فكنَّ البذرة والنبتة والظلّ، واجتهدن ليحملن السودان في قلوبهنَّ كحديقة غنّاء تحيا رغم العواصف. 

أنتنَّ النبض الأخضر لهذا الوطن، نبع العطاء الذي لن يجف، وأمل الغد الذي لن يموت، وروح السودان التي لن تنكسر.

محبتي والسلام.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *