خواطر

البراء بشير *
* كاتب صحفي.
المدينة الفاضلة (الفارابي)
تحدثنا في مقالين سابقين عن المدينة الفاضلة من وجهة نظر إغريقية قديمة، وهي وجهة نظر أفلاطون وأخرى تخص فيلسوفاً ينسب إلى التاريخ الإسلامي، وهي وجهة نظر الفارابي. واليوم نتطرق إلى ذات الفكرة من وجهة نظر غربية، تزامنت مع عصر النهضة الأوروبية، وهي التي وردت في كتاب يوتوبيا للفيلسوف والقائد السياسي الإنجليزي توماس مور.
ولد توماس مور في مدينة لندن عام 1478 للميلاد، وقد نشأ نشأةً دينية نصرانية، فقد تلقى تعليمه في مدرسة القديس أنتوني . والده هو السير جون مور، الذي امتهن مهنتين قانونيتين، فقد كان محامياً ثم أصبح قاضياً. وقد سلك توماس نهجاً مشابهاً لنهج والده، فقد تخرج محامياً في جامعة أكسفورد، ومارس العمل النقابي، وتدرج إلى أن أصبح مستشاراً للملك هنري الثامن، ثم عين وزيراً للعدل في العام 1529 ولكنه استقال من منصبه إثر خلاف مع الملك، وسجن ثم أعدم في العام 1535.
تأثرت فلسفة توماس مور بالجوانب الروحانية، فقد نشأ نشأةً دينية كما ذكرنا سابقاً، وقد حكى عنه أحد أصدقائه المقربين أنه فكر في فترة من حياته في ترك الحياة المهنية ليصبح راهباً.
كتب توماس مور قصته الخيالية (يوتوبيا) باللغة اللاتينية، ونشرت في العام 1516. والمعنى الحرفي لكلمة يوتوبيا هو (لا مكان).
محور الحديث في القصة هو التقاليد السياسية والأعراف الدينية والاجتماعية لجزيرة معزولة تسمّى (يوتوبيا). يروي مور القصة على لسان بحار اسمه رافائيل وصل إلى هذه الجزيرة الواقعة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، فوجد فيها مجتمعاً فاضلاً، يعمل جميع أفراده بالزراعة، ولكل فرد في هذا المجتمع حرفة أخرى جانبية يختارها بنفسه؛ السمة الرئيسة لهذا المجتمع هي الاشتراكية والمساواة بين الجميع، حيث لا توجد بها ملكية خاصة، ويعدّ الجميع شركاء في الأرض، مما يضمن لهم الوصول للموارد الأساسية من مأكل ومشرب، بل الأمر أشمل من ذلك، فحتى ثياب أهل الجزيرة على شاكلة واحدة، وبها دين سائد ولكنه بلا شعائر يؤمن معتنقوه بإلهٍ واحد ويوم آخر .
ولا يخوض سكان يوتوبيا حرباً إلا دفاعاً عن جزيرتهم، أما نظامهم السياسي فهو قائم على مجلس حاكم ينتخبه الشعب، وتتلخص مهماته في صياغة القوانين، والإشراف على تنفيذها، ومراقبة العمل، وحماية مصالح أهل الجزيرة. تعد يوتوبيا خالية من الجرائم، حتى أن البيوت فيها بلا أقفال، وهي على هيئةٍ واحدة مراعاة للجانب الاشتراكي، ومن البديهي أنه ليس بها عقوبات لانعدام الجرائم.
يحاول مور من خلال هذه الصورة الوهمية مناقضة المجتمع الواقعي، وإدانته بطرح بديل خيالي معاكس له، وقد لقي هذا الكتاب رواجاً بين المثقفين الأوربيين، وصار النوع الأدبي الذي يدمج بين الخرافة وأدب الرحلات يعرف بالأدب اليوتوبي أو (الطوباوية).
ومؤخراً ألحقت به كل المنتوجات الأدبية التي تتحدث عن المدن المثالية الخيالية، حتى الأعمال التي سبقت يوتوبيا كجمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة وغيرهما.