حين رحلة إلى أرض الموت والدمار (3)

119
أبوشامة

عماد أبوشامة

كاتب صحفي

• لو عدنا قليلاً لأيام الحرب الأولى، حيث لم يدر في خلدنا أن تستمر لأكثر من عامين وما زال أوارها مشتعلاً.. أعتقد أننا كنا جميعاً شركاء في التضليل الذي حدث، فقد وقعنا ضحية سوء تقدير غريب، ولم ندرك أنه ما كان يجب الاستهانة بقدرات وإمكانات مليشيا الدعم السريع،  ونحن نرى أمام أعيننا تحشيدها واستعداداتها لهذه الحرب منذ زمن بعيد، ربما عقب الثورة مباشرة والإطاحة بعمر البشير.

 بعد أسبوعين فقط من اندلاعها أذكر أن اتصل بي أحد الأصدقاء الذين تصادف وقوعها مع وجودهم في إجازات روتينية في مصر، وعلقوا هناك وبقية أسرته هنا يزداد قلقه عليهم كل صباح، فكان يسألني متى تتوقف الحرب ويعودون إلى الخرطوم.. فقلت له أيام معدودة ويتم القضاء تماماً على الدعم السريع وينتهي كل شيء وتعودون إلى بيوتكم وأسركم.. كنا نعتمد على إفادات بعض النشطاء القريبين من مصادر بالجيش، خاصة العميد طارق الهادي كجاب، الذي كان يخرج صباح مساء ليقول لنا إن الحرب انتهت بالقضاء على الدعم السريع، وإن الجيش السوداني (يلخص) في المعركة حالياً؛ أي يكتب في نهايتها حسب المصطلح العسكري.. ولكن الواقع كان يقول إن الجيش السوداني في تلك الفترة كان في أسوأ حالاته.. قائده ما زال محاصراًِ في القيادةالعامة.. الحاميات والفرق العسكرية كانت تسقط واحدة تلو الأخرى في يد الجنجويد، وليس هناك جبهة صامدة صمود الجبال غير المدرعات، والتي كانت انتصاراتها وصدها لكل هجوم هي الأمل الوحيد، وهي التي كانت تدعم شعور أن جيشنا لا محال داحر لهذه المليشيا طال الزمن أو قصر.. وقد كان.

  الأمر الذي كان يزيد من شعور الاطمئنان، أن مليشيا الدعم السريع لم يكن لديها أي وجود عملياتي في الولايات، خاصة بعد دحرهم في مروي وبورتسودان، وأصبحت بقية قواتهم في الولايات الأخرى تعلن عن استسلامها بشكل متواتر، فكنا نعتقد بفهمنا (المدني) المتواضع جداً، أن جيوش الولايات ستحاصر العاصمة قريباً للقضاء على من تبقى من جنجويد. 

حتى ذلك الوقت لم يكن هنالك احتلال للبيوت، أو سرقات للسيارات، مع عدا السرقات التي تمت للبنوك بعد مرور الأسبوع الأول.. أعتقد أن ما سهل أمر احتلال البيوت هو حالة النزوح العريضة التي كانت تشهدها العاصمة هرباً من الموت فقط، ولم نكن نتخيل أن الأعراض أيضاً مهددة.. فوجد جنود المليشيا أمامهم منازل خالية من السكان، وغنية بالذهب والأموال؛ فقد خرج أهلها  على عجل، لم يخطر في بالهم- وخاصة الذين عجزوا عن الخروج، أو لم يقدروا الأمر جيداً- أن المرحلة القادمة من الحرب هي النهب والسرقة والاغتصاب بشكل لم يتخيله عقل بشر، فجأة أصبحت قضية الدعامة وهدفهم الأهم هو احتلال بيوت الكيزان، بعد فشل مخططهم في الاستيلاء السريع على السلطة، وجلب الديمقراطية للشعب السوداني، التي كان يقف حجر عثرة أمامها البرهان وجنوده، فقتله أو اعتقاله سيقودنا مباشرة إلى دولة العدالة والتنمية والديمقراطية، أو هكذا كانوا يظنون ويصورون لنا.

 جالت في بالي هذه الخواطر وأنا أتجول في الخرطوم بعد تحريرها، ومشاهد الدمار مد البصر تدمي القلوب، وتدمع العيون.. دخول جنود المليشيا إلى المساكن والأحياء هرباً من استهداف الطيران كان هو السبب الأساسي في دمارها، فمن لم يدمر بسبب حقدهم وغلهم وحسدهم، دمر بسبب استهداف قادتهم الذين احتلوا أفخم المنازل، وأحضروا أسرهم وأهلهم تمهيداً للاحتلال الأبدي لتلك المنازل، ظناً منهم أنهم لا محال داحرون للجيش، فقد وعدهم داعموهم بذلك، وصدقوا هم وآمنوا.

 ربما أصبت البعض بالإحباط عندما قلت في الحلقة الأولى إن عامين آخرين ربما لا يكفيان لعودة العاصمة كما كانت، أو لعودة سكانها إليها على الأقل، وتوفر الخدمات الضرورية فيها، فمشاهد الخراب التي طالت البيوت والبنى التحتية هي التي تقول بذلك..

 دخلنا في جولتنا تلك الكثير من البيوت في أحياء جبرة والمعمورة والصحافات وأحياء وسط بحري، كعينة عشوائية للأحياء التي احتلها جنود المليشيا، وما حدث فيها في أعقاب ذلك.. يتبادر إلى ذهنك كيف لم ينجُ ولا منزل من أن تطاله أيدي تخريب المليشيا؟ كيف تمكنوا من ذلك؟.. كيف نقلوا المسروقات وإلى أين؟ لماذا كانوا يدمرون ما لا يستطيعون حمله؟ هل خرجت كل المسروقات من العاصمة وعبرت إلى دارفور؟ هل هي موجودة الآن في دارفور أم عبرت بدورها من هناك إلى دول الجوار؟ أنا هنا أتحدث عن الأثاثات والمقتنيات وليس السيارات، فهذا شأن آخر وقصة أخرى.

أسئلة سنجاوب عليها بالتحليل في جانب وبالمعلومات في جوانب أخرى في الحلقة القادمة إن شاء الله.

دمتم بخير.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *