معتصم تاج السر

معتصم تاج السر

كاتب صحفي

• في كل ركنٍ قصيٍّ من هذا الوطن المذبوح، حيث تنام المأساة على أشلاء الحُلم، وتصرخ الطفولة من رماد البيوت يُطلّ علينا موقف الحياد من بعض أبناء الوطن كغصة لا تُمحى، وكطيفٍ عابر يبتسم ببرود في جنازات أبنائه. 

وبينما يكتوي الناس بنار الحرب، هناك من يظن أن الوقوف على الرصيف يُعفيه من دمعة أُم ثكلى، أو أن الصمت أمام الرصاص يجعله طاهراً كالماء.

لكن أفي وطنٍ يتشظى يكون الصمتُ نقاءً..!؟ 

أم لعنةً جديدة في كتاب المأساة؟

قال سيدنا الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – لمن اختاروا الحياد في معركة الحق:

«لم تنصروا الباطل ولكنكم خذلتم الحق». 

عبارة تهزّ القلب، وترنُّ كجرس حداد في ضمير كل من اختار أن لا يكون شيئاً…! بينما يُقتل كل شيء…!

في السودان بلد النيلين الذي أرهقتهُ الدموع، صار الحياد موقفاً مخيفاً، لا لأنه لا يحمل سلاحاً، بل لأنه ترك السلاح في يد الباطل وأدار ظهره للحق المنكوب.

أيُعقل أن ترى وطناً تنهشهُ الذئاب وأنت تُصلّي للحياد..!؟ أيُعقل أن تسمع بكاء النساء في مخيمات النزوح وتردّد: «أنا لا أنحاز»..؟! متى يكون الانحياز إذا لم يكن لضعفائنا ومظلومينا؟ 

يا من تدّعون الحياد، أتظنون أن هذه الحرب تُدار هناك بعيداً عنكم..!؟ ألا تعلمون أن كل طلقة لا تُدان بصوتكم قد تُصيب طفلاً باسماً في صدر أمه..!؟ ألا تدركون أنكم ببرودكم تمنحون القتلة طمأنينة الاستمرار..!؟ الحياد في زمن الجريمة ليس عدلاً، بل جريمة أخرى مغسولة بالماء، معطرة بالكلام الناعم.

في قلب هذه الحرب لا مجال للعاشق لتراب هذه الأرض أن يكون محايداً. 

فالعاشق هو ذاك الذي يرى الوطن حبيبته.

ويرى جراحه كأنها على جلده، يسمع صرخته في أذنه كلما همّ بالنوم.

العاشق لا يقف محايداً وحريرته أو كريمته تُغتصب أمام عينيه ويقول «أنا محايد».

لا يتفرج على موتها البطيء ويكتب منشوراً أنيقاً عن «ضرورة التهدئة».

الحرب في السودان ليست نشرة أخبار، إنها مأساة حيّة نزفٌ بصورة مستمرة، وطعنة في خاصرة الحُلم.

والحياد وسط هذه النار ليس سوى ثوبٍ جميل يُخفي ندالة القرار. 

لأن الذي لا ينصر المظلوم إنما يتركه فريسة للظالم.

أكتب إليكم اليوم لا بقلم السياسة ولا الأدب، بل بحبر القلب بمِدَاد أحمر. 

أكتب من مقام الحس الإنساني العميق، لا لأننا نؤيد الحرب، بل لأننا نُحب هذا الوطن حدّ الوجع، ونغار عليه من حيادكم كما يغار العاشق على من يحب من خيانةٍ مقنّعة. 

الحس الإنساني العميق الحقيقي، هو أن تحتضن جراح وطنك، لا أن تُبارك قتلهِ بصمتك. 

هو أن تصرخ للحق ولو بين ألف سكين.

أيها الصامتون، 

أيها الواقفون على الهامش، أما آن لكم أن تُدركوا أنكم بحيادكم تقتلون الحياة..!؟ 

أنتم لستم بخير، 

وأنتم لستم أنقياء. 

لأن الطهر في معركة كهذه يكون بدمعة صادقة، وبموقفٍ شجاع  بصوتٍ يدين لا بثياب حياد تُغطي العار.

إننا اليوم في هذا الظرف الفادح، لا نطلب منكم الاصطفاف خلف راية سياسية أو أيدلوجية، ولا أن ترفعوا لافتات فصيل أو كيان، بل ندعوكم إلى التوحد في إنسانيتنا في سودانيتنا فقط..! 

فهي الحد الأدنى، وهي أقل ما يجب أن نتفق عليه كبشر. 

وأن يكون وجع الآخر هو وجعك، وأن تكون دمعة الطفل النازح جرحاً في قلبك هذا ما نحتاجه الآن.

سنقولها للتاريخ والضمير الإنساني، فلا يخيفنا إن نوصف بالعمالةِ أو البلبسةِ، لأنهُ لا تُغرينا جنة اليمين ولا نخاف نار اليسار، فجنتنا هي في ربوع وطننا المعافى، والنار هي هذا الهوان الذي أنا ووطني وأهلي فيه.

اللهم إنا نسألك أن تهدي أهل الحياد إلى كلمة سواء، وأن تلهمهم نصرة الحق ولو بكلمة. اللهم اجبر كسر شعبنا السوداني، وكن لهم ولياً ونصيراً، واجعل من هذا الألم باباً للوعي واليقظة.

اللهم أصلح حال السودان، واغسل جراحه، وعمّره بصدق أبنائه، وارفع عنه البلاء والغلاء والدماء. واجعلنا من الذين يقولون للحق حقاً ويتبعونه، ويقولون للباطل باطلاً ويتجنبونه.

آمين يا رب العالمين.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *