د. خالد مصطفى

د. خالد مصطفى

كاتب صحفي

 • هذه (الأوركسترا) الجميلة ما بين إيقاعات (الطار والنوبة والجرس والقرن)، تعزف هذا اللحن الموسيقي الفريد بإيقاعاته الأفريقية الراقصة، يزيدها ألقاً صوت المادح أو المدّاح، وترديد جموع (الذاكرين) المصطفّين في الحلقة تلك الكلمات والألحان بصورة جماعية ورقص جماعي، تعتريه بعض النشوى التي تنتاب جميع الحضور. ويكتمل المشهد أحياناً بتلك الزغرودة التي تطلق خصيصاً في مثل هذه المناسبات، فهي لا تشبه الزغرودة التي تطلق في مناسبات الأعراس ولا غيرها، هي زغرودة بلحن، أو ممكن أن نسمّيها (زغرودة ملحنة)، تتماشى مع اللحن الموسيقي والجو العام في هذه الحلقة، وتأتي بصورة متقطعة تطلقها عجوز فاقت سن الإنجاب من تلك اللواتي يرتدن المساجد، (ايوي ايوي ايوي ايوي)، أو كما يتفق مع اللحن والرقص. هذه الألحان تتجاوب معها تلك الأجساد الرشيقة، وتتفاعل الأرواح مع كلمات المديح والذكر، فتصنع تلك النشوى التي لا تجد لها تفسيراً. علاقة الروح بالجسد الجدلية وتفاعلاتهما، يبدو لي أنها رياضة متكاملة، رياضة الجسد بالرقص، ورياضة الروح بالشعر الملحن وتفاعلاتها مع الموسيقى تخلق هذا الصفاء وهذا النقاء في هذا المشهد المهيب. الكل هنا مبتسم، 

وتأتي اللحظة الأكثر إثارة حينما يقوم هذا الدرويش أو ذاك باعتلاء شجرة أو أكل النار. نعم أكل النار، أو الصراخ والبكاء، أو أن يأتي أيّ منهم بفعل خارق للطبيعة، حينها يقولون إن الدرويش (جذب). وأظنهم يقصدون أنه قد حصل له (جذب سماوي).

و(الجندر) هنا حاضر أيضاً، فكما الرجال الدراويش (ينجذبون)، فالنساء أيضاً يحدث لهنَّ جذب من نوع آخر، ويسمونه هنا (الدستور)، ولا أعرف لماذا يسمَّى عند الرجال (الجذب) وعند النساء (الدستور)! ففي النهاية كلها حالات جذب خارقة تنتاب المرء بغض النظر عن نوعه. والدستور عند النساء كأن تسقط إحداهنَّ على الأرض عند اشتداد الذكر مغشياً عليها. أو تتكلم كلاماً مبهماً، وأحياناً تطلب طلبات غريبة، وغيرها من الأشياء غير المألوفة. 

في ظني هذه العادات مستصحبة من ديانات قديمة أو هكذا تبدو. 

الحلقة دائرية الشكل كالعادة، لا أدري ما السر في ذلك، وما السر في شكل الدائرة تحديداً، لأنه بإمكانها أن تكون مربعة أو مستطيلة أو مثلثة أو أي شكل آخر، أو تأخذ شكل المكان الذي فيه الذكر، ولكنها دائرية، دائرية.

النساء خلف الرجال في الحلقة على مسافة تبدو قريبة ولكنها بعيدة نسبياً، فالمقام مقام ذكر و(سمو)، لا يسمح باختلاط الرجال والنساء.

كل من في الحلقة حفاة (اخلع نعليك إنك في الحلقة المباركة)، ولا يصح الذكر مع لبس النعال.

(الجبة المرقوعة) في الغالب هي الزي الرسمي للدراويش، يميّزون بها أنفسهم عن العامة، وهي عبارة عن جلابية مزركشة ذات ألوان عدة، ويكتمل الزي بلبس (طاقية) خضراء و(شال) أخضر. 

هؤلاء المداح المملؤون حماسة بأصواتهم الجميلة يحملون طاراتهم، ويمدحون بلحن غنائي جماعي كفرقة موسيقية، ثم يبدأون بضرب الطار، تتجاوب معهم بقية الآلات الموسيقية (النوبة والجرس والطبل والقرن)، حينها تبدأ الأجساد تتمايل حسب اللحن، مرددين في أحيان كثيرة (الله الله الله الله الله الله…)، أو حسب المقطوعة المراد ترديدها. والمداح في أثناء مديحهم يطوفون كل الحلقة الدائرية (كعقارب الساعة)، ليمروا في الدورة الواحدة بأي فرد في حلقة الذكر، وأحياناً يتحمس بعض من في الحلقة بإرجاع المداح إلى الخلف في حركة راقصة لطيفة (هذه الحركة غالباً ما يفعلها العوام وليس الدراويش)، لأنَّ الدراويش يكونون في داخل الحلقة يستعرضون، وكلٌّ يأتي بحاجاته الخارقة.

العازفون كلٌّ يجيد عزف آلته، فهذا (ضارب النوبة)، وذاك (ناقر الطار)، وآخر (نافخ القرن)، وهكذا. ويوجد عازفون كثر لكل آلة يتعاونون فيما بينهم في العزف، فعندما يتعب أحدهم يسلمها للآخر وهكذا دواليك إلى أن تنتهي الحلقة.

الشيخ في غالب الأحيان يتقدم المداح والدراويش في داخل الحلقة المتحركة، يراقب ويؤشر، ويكون أكثر هدوءاً ومهابة باعتباره (كبير القوم)، هو في داخل الحلقة كملك حوله حاشيته، وهو الذي يعلن نهاية الذكر، التي غالباً ما تكون عند دخول مواعيد إحدى الصلوات المفروضة، ويعطي (الفاتحة). 

وتقام حلقة الذكر هذه في مناسبات صوفية عديدة، منها عيد رمضان، وعيد الأضحى، وعيد المولد، ويوم عاشوراء، وليلة الإسراء والمعراج ٢٧ رجب، وليلة النصف من شعبان، وذكرى بدر الكبرى ١٧ رمضان، و(الحوليات) مفردها (حولية)، وهي الذكرى السنوية لوفاة الشيخ الكبير، وأحياناً كل ليلة خميس.

وكل عام وأنتم بخير، عيد سعيد، أعاده الله علينا باليمن والبركات والمودة والوئام، والسلام.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *