حفتر يُشعل النار في المثلث… بالضوء

184
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• تغرب الشمس خلف صحراء عوينات، حيث تلتقي حدود ثلاثة بلدان لا تريد الحرب، لكن الحرب تأتيها رغم أنفها. جاء حفتر ومليشياته كالرجل الذي يعرف أنَّ أحداً لن يوقف زحفه. دخل الأراضي السودانية والمصرية ببرود المستأمن، وكأنَّ الأرض لا سيد لها إلا القوة والسلاح. كانت مليشياته تزحف كالعاصفة الرملية التي لا تبقي ولا تذر، تاركة خلفها أسئلة كثيرة وإجابات قليلة.
لم يكن ليجرؤ على هذه الخطوة لولا (الضوء الأخضر) الذي حصل عليه. فقبل ذلك، زار السيسي الإمارات حيث تجري صناعة القرارات بعيداً عن ضجيج الإعلام وصراخ الشارع. هناك، بين ناطحات السحاب والاستثمارات الضخمة التي تضخها أبوظبي في الاقتصاد المصري المتعثر بديونه المتراكمة، جرى التفاهم الخفي. الإمارات التي تنفق المليارات في مصر تريد شيئاً في المقابل، وربما كان مثلث عوينات بثرواته المدفونة وموقعه الاستراتيجي جزءاً من هذه الصفقة الكبرى، في جانب، ومن جهة أخرى، تجد في هذه الحرب فرصة اقتصادية ذهبية لإنعاش تجارتها، فهي اليوم، في ظل استمرار الحرب، أكبر مصدر للبضائع إلى جارتها بأعلى أسعار ممكنة، وتستورد لحومنا بمبالغ زهيدة. لأن الحرب دائماً تجارة رابحة، ومصر تعرف جيداً كيف تحول جيرانها إلى سوق لمصالحها. لكن المؤكد والثابت هو استنزاف السودان بفتح جبهة طازجة.
في الخرطوم، يحترق الشارع غضباً وحيرة. هذه ليست حرباً على الأرض فحسب، بل هي معركة وجود مصيرية. فالجنجويد المدعومون لوجستياً ومالياً من بعض دول الجوار يحاصرون السودان كالذئاب حول الفريسة. في ليبيا، تعبر الميليشيات والمرتزقة الحدود بسهولة مريبة. وفي تشاد، تتحول الأراضي إلى ممرٍّ آمنٍ للمقاتلين والسلاح. أما إثيوبيا فتلعب بورقة النيل والحدود بينما السودان ينزف من كل جهة. وحتى مصر، التي يفترض أنها حصن الأمن القومي العربي، تسمح بمرور العاصفة على حدودها الغربية دون أن تحرك ساكناً.. والمال يعميها عن الشوف.
هذه ليست معركة حفتر وحده، بل هي جزء من حرب النفوذ الإقليمي والدولي الأوسع. روسيا تبحث عن موطئ قدم في أفريقيا عبر شركة فاغنر وحلفائها. الإمارات تدفع بأجندتها الاقتصادية والسياسية عبر وكلائها في المنطقة. ومصر تتنازل عن سيادتها في الصحراء مقابل دعم مالي يمسك بها من الانهيار. أما السودان، فليس له إلا البنادق وإرادة شعب يعرف أنَّ الهزيمة هنا تعني الفناء والضياع.
إذا سقط مثلث عوينات، فستكون الكارثة كبيرة… السودان سيفقد آخر شريان للصمود عبر حدوده الشمالية. والأمن المصري سيتعرَّض للاختراق، ولن تكون الصحراء الغربية آمنة بعد اليوم، فغنائم اليوم الآنية ستصبح كوابيس الغد. وسيتم تكريس سيطرة الميليشيات، حيث تصبح الدول أرضاً بلا قانون، والمواطنون في الداخل، غنيمة للحرب والدمار.
يقولون إنَّ التاريخ يكتبه المنتصرون، لكن السودانيين يكتبون تاريخهم الآن بدمائهم وأشلائهم. إنها معركة وحيدة ضد كل هذا الجبروت.. جبروت المال، وجبروت السلاح، وجبروت الخيانة. وكما قال أحد أبناء القبائل على حدود عوينات: (الصحراء تعرف من داس ترابها غدراً، وسيأتي يوم ترد فيه الجميل).
الآن، النار مشتعلة في المثلث… والسؤال الذي ينتظر الإجابة: من سيكون أول من يطفئها؟
الإجابة تكمن في ذاكرة الصحراء ذاتها.. عندما كانت ليبيا تحترق، وقف الجيش السوداني إلى جانب الثوار. أرسل الأسلحة. درَّب المقاتلين. ساعد في إسقاط نظام لم يكن يعرف الرحمة. كان ذلك عملاً شجاعاً. أو غبياً. التاريخ سيحكم.
الآن.. النار مشتعلة في السودان. والجيش الليبي – أو ما تبقى منه – يقف مع من أشعلها. حفتر وجنوده يعبرون الحدود وكأنها خطوط مرسومة على الماء. لكن الصحراء تتذكر.
سيأتي يوم. ربما قريباً. ستنقلب الأدوار. سيعود الساعد الذي مدده السودان يوماً، عائداً ليرد الجميل. أو ليثأر. في الحرب، لا شيء مؤكد إلا الموت.
التاريخ لا يغفر الخيانة. لكنه لا يكافئ الإحسان أيضاً. إنه فقط يسجل ويتربص.
النار التي أشعلها حفتر بالوكالة اليوم، قد تلتهمه غداً. والجيش السوداني الذي ساعد في إسقاط طاغية بالأمس، قد يجد فجأة أسلحة وذخائر قادمة من حيث لا يتوقع. فالصحراء تعطي وتأخذ.
التاريخ… يعمل على وقته الخاص. بلا عجلة. بلا رحمة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *