‭ ‬جوبا‭ … ‬وجْداني‭ ‬وعِنّواني‮

66
Muatasim Taj Elsir
Picture of معتصم تاج السر

معتصم تاج السر

كاتب صحفي - مؤسس حركة السودان الأخضر

جوبا ... وجْداني وعنواني

وتخذلني لغة الكلام والتعبير حين أتحدث عن العلاقة العميقة بين السودان وجنوب السودان، تلك العلاقة التي تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة لتتجسد في وجدان مشترك وحكايات أزلية تربط القلوب قبل الأرض. 

كيف يمكن للكلمات أن تحتوي مشاعر أمة واحدة انشطرت، لكنها لم تفقد صدى الماضي الذي يربطها…!!

إن النيل الذي يشق أراضيهما لم يعرف يوماً الحدود فهو يشهد على تاريخ من الانصهار الثقافي والتداخل الاجتماعي الذي لا تفرّقه معاهدات ولا تقسمه خرائط.

السودان وجنوب السودان هما شريكان في الإرث الإنساني الذي خطّه الأجداد، وفي الأحلام التي تسكن قلوب الأبناء. 

إنهما ليسا مجرد دولتين، بل روح واحدة تبحث عن الانسجام بين شقيها. 

هذه العلاقة ليست مجرد ذكريات ماضٍ مشترك بل هي وعدٌ بمستقبل يمكن بناؤه على أسس جديدة من التعاون والاحترام المتبادل.

العقل يقول إن المصالح بينهما متشابكة وإن استقرارهما مرتبط بيدٍ تمتد للآخر. 

أما القلب فينحني إجلالاً لتلك العاطفة التي لم تندثر رغم الجراح. 

فالجمال هنا يكمن في التحدي أن نجعل من هذا الإرث المشترك جسراً للسلام لا ساحة للصراعات.

وحين تخذلني لغة الكلام يبقى الأمل هو التعبير الأصدق لأن السودان وجنوب السودان ليسا مجرد جارين، بل توأمين يحتاجان إلى استعادة الوئام الذي يُعيد لهما كمال صورتهما في مرآة التاريخ.

كل ما ذكرت الجنوب أتذكر بحنين كبير ذلك اليوم قبل عشرات السنين في مكتب الجوازات والهجرة والجنسية بالخرطوم عندما صافحت المقدم توماس جاك ضابط الجوازات المبتسم دوماً، والذي كان يحمل دفء الجنوب في ملامحه وصوته. 

كنت حينها أستخرج جواز سفري الذي في يومها قد حمل توقيعه وما زلت أحتفظ به حتى اليوم ليس فقط كتذكار من مستند رسمي بل كرمز للصداقة والمحبة التي جمعتنا وإمتدت لسنوات.

اليوم الصديق توماس جاك أصبح فريق شرطة يتربع على قمة هيئة جهاز الشرطة في جنوب السودان كما شاهدت في الاخبار منذ مدة , وبرغم عدم تواصلنا قرابة العشرون عاماً ولكن ما زالت تلك المحبة كما هي لا تفصلها حدود ولا تغيرها المناصب فله مني من على البعد خالص المحبة والتقدير.

وهنالك ومضة آخرى في إرث محبتنا لأهلنا في الجنوب أختنا دكتورة ريتا، الأخت التي لم تلدها أمي، وإخوانها وأخواتها الذين كنا معهم كعائلة واحدة نتقاسم الأفراح والآلام نحتفل بالأعياد ونتسامر في الليالي الطوال. 

ذكرياتنا معهم تعكس وحدة إنسانية أعمق من كل الانقسامات كأننا أرواح تآلفت منذ الأزل.

ولا يمكنني أن أنسى حسين الإنسان الذي كان يعمل ضابطاً بالشرطة السودانية الذي جسّد الروح الوحدوية في حياته الشخصية قبل أن تكون شعاراً سياسياً.

كان زوجاً لامرأة من السودان بينما هو من جنوب السودان واستطاع أن يجسد نموذجاً للمحبة والأسرة الفاضلة وتلك العلاقة التي تتجاوز كل الحدود الجغرافية حالهم كحال الكثير من الأسر بين الدولتين. 

ولدينا الكثير من الأصدقاء والاخوان على مر مسيرتنا التعليمية والعملية كانوا من جنوب السودان.

علاقات تشبه الجسد الواحد الذي يحمل روحين، ارواحاً لا تعرف الانفصال أو الجغرافيا.

لا يذكر الجنوب الا ويذكر ابن ملكال المناضل الإنسان الفقيد النائب البرلماني دينق قوج الذي فارقنا في خواتيم ديسمبر الماضي. 

فقد كان دينق نموذجاً إنسانياً نادراً وحدوياً لا تستطيع أن تميز إن كان سودانياً أم جنوب سوداني لأنه كان الإنسان الذي احتضن الجميع بحُبّ وتسامح.

عندما غادر دنيانا بكاه السودانيون كما بكاه الجنوب سودانيون واختلطت دموعهم كما يختلط النيل الأبيض بالنيل الازرق في كل محبة في الخرطوم. ذلك النيل الذي يربط الدولتين بكل حنين كان هو .. هو دينق قوج ، فقد كان رمزاً للعلاقة الأبدية التي لا يمكن أن تهتز مهما عصفت بنا الظروف.

وبعد اندلاع حرب أبريل 2023 في السودان لجأ آلاف السودانيين إلى إخوانهم في دولة جنوب السودان وطنهم الثاني الذي احتضنهم بحُبّ وأمان. 

كان جنوب السودان نعم الملاذ من ويلات الحرب حيث فتح شعبه قلوبهم وديارهم لإخوانهم الذين شردتهم المعارك. 

وقبل الحرب بسنوات طويلة، كان هناك مئات من السودانيين الذين فضلوا العيش والتجارة في دولة جنوب السودان سواء قبل الانفصال أو بعده.

ليؤكدوا أن الأرض قد تتغير ملامحها على الورق ولكن العلاقات الإنسانية تظل أقوى من كل حدود.

إن لعلاقات كهذة ولروابط عميقة بعمق التاريخ والمصير المشترك لابد أن تتربصها الفتن والمكائد وما حدث في الجزيرة لأهلنا من جنوب السودان حيث تعرضوا لاعتداءات وجرائم شنيعة أدمت قلوبنا وندينها بكل المقاييس.

وإن مرتكبي تلك الفظائع هم فئة لا تمت للإنسانية ولا الحقوق ولا الأعراف بصلة، فئة لا تمثل إلا نفسها، ولا تعكس أخلاق السودانيين ولا تاريخهم المشترك مع الجنوب.

يجب أن يُقدم هؤلاء المجرمون إلى العدالة وأن يجدوا العقاب المماثل لفعلتهم وفق القانون والتحقيق العادل.

وفي ذات السياق نحيي الخطاب المسؤول والقرارات الحكيمة لفخامة الرئيس سلفاكير ميارديت الرجل العظيم الذي حمل على عاتقه مسؤولية احتواء الأحداث الإنتقامية في جنوب السودان ضد مواطنيين سودانيين.

ومؤكداً بحكمته أن الفتنة لا تخدم أحداً وأن المحبة والوحدة هي الطريق الأوحد نحو السلام.

إن الرئيس سلفاكير برصانته ورؤيته العميقة يثبت مرة بعد أخرى أنه ليس مجرد قائد لدولة بل أب للجميع يعمل من أجل شعبه ومن أجل السودان وجنوب السودان ككيان إنساني متصل لا تفصله الجغرافيا ولا تعكره الأحداث العارضة.

ولعمق محبتي لأهلي في الجنوب ولمدينة جوبا التي زرتها أكثر من مرة عشقت تلك المدينة التي تبعث في القلب دفئاً لا مثيل له. جمع لي القدر بصدق محبتي أن أكون من عشاق جوبا المدينة، ومن سكان «شارع/لفة» جوبا بالخرطوم» حيث يقع مسكني في المعمورة جنوبي الخرطوم فحملت جوبا في عنواني لمسكني.

كما لم تغب عن وجداني، بل بقيت محفورة في داخلي، عنواناً للحُبّ والحنين.

ظلت جوبا وجداني وعنواني، مكاناً يحمل بين جنباته ذكريات لا تُنسى، وارتباطاً عميقاً لن ينقضيه الزمان ولا المكان.

إننا في الدولتين السودان وجنوب السودان بحاجة ماسة للإنصياع لصوت العقل لتذكُّر أننا أهل وأحباب. 

الخرطوم ستعود لتحتضن أختها جوبا بكل محبة وشوق. 

فجوبا، كما قال الفنان محمود عبدالعزيز أجمل  مدينة.

فصدق حين قال :

«في مدينة جوبا أجمل مدينة»        

«طيارة قومي سريع ودينا»         

«اشتقنا لـ(مونيكي)»

«و(ماما رجينا).» 

نعم لقد كانت جوبا الأم الحنون التي جمعت الفرقان في مباحثات السلام بعد ثورة ديسمبر المجيدة بين حكومة السودان وحركات الكفاح المسلح وألفت القلوب.

وجمعتنا جوبا حين ضاقت بنا نفوس بعض بني وطننا فأشعلوها فوق رؤوسنا حرباً أنهكت الزول السمح والزين.

أنه بالنظر لكل الذي بيننا تتجلى الحقيقة الواضحة ما يجمعنا أعظم مما يفرقنا، وما يربطنا من أواصر الدم والتاريخ أعمق من كل خلاف. 

نحن أبناء النيل، نحمل في قلوبنا إرثاً مشتركاً ومشاعر تتجاوز الحدود. 

مهما تباعدت المسافات، فإن أرواحنا تبقى متشابكة كأغصان شجرة واحدة.

يذكرني هنا قول شاعرنا عبد المنعم عبد الحي في رائعته الخالدة أنا أم درمان حين قال:

«أنا ابن الشمال سكنته قلبي

على ابن الجنوب ضميت ضلوعي»

سلام بتاعنكم ناس فى كونجو كونجو

مودتي والسلام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *