جنوب النص : قراءة في تضاريس القصيدة السودانية المعاصرة  1-3

12
عبدالقادر جبار

بقلم: د. عبدالقادر جبار

استاذ جامعي شاعر وناقد *

• تركت عناصر الجغرافيا والتاريخ أثراً خاصاً في سياقات الثقافة السودانية وأنساقها ، وتمركز ذلك الأثر في تنوع الاطر الجمالية الابداعية والفنية فضلاً على تمركزه في مجمل البناء الحضاري للإنسان في السودان ، فعناصر الحغرافيا طبعت  الثقافة في ثنائية ألإطار والانفتاح التي اشتغلت في ثنائية التواصل والانفصال مع المنتج الخاص والعام للأنا والآخر في مجال الابداع ،  وذلك عبر عمليتي التفاعل الانساني والحفاظ على خاصيات الهوية في الوقت نفسه.

وقد اتضحت هذه الثنائية بشكل خاص  في  تعاطي الانسان في السودان مع المنتج الثقافي الفكري للآخر ومع إعمام فكره وثقافته على المنجز الحضاري للآخر وعالمه المحيط  ، كما اسهم موقع السودان الجغرافي  في تنوع  التواصل الحضاري بين العرب والأفارقة وذلك بسبب الموقع المجاور للحضارتين ، ولكن هذا الجوار لم يضع الثقافة السودانية في موقع محايد بين العرب وشعوب افريقيا بل كان رسالة عربية اسلامية مستمرة في بنية الثقافة الافريقية مثلما أفادت السودان من الثقافة الأفريقية في التعامل الرمزي مع العالم المحيط وانتقال هذه العلاقة الى بنية الرمز الشعري في القصيدة  السودانية ، فالقناع واحد من مقومات الحضارة الافريقية في حين تستند الثقافة العربية الى الوضوح والبيان والصدق الفني ، ومن تفاعل الحضارتين شق النص السوداني طريقه في عالم الإبداع.

ويذهب الدكتور عبده بدوي في هذا الصدد قائلاً : ((الحضارة الإفريقية تقول إن للإنسان وجهين ، أولهما هذا الوجه الذي نراه في العيان ، وهو وجه زائف ، أمّا الوجه الحقيقي للانسان فهو وجه آخر خالد خلود الشمس والقمر والنجوم والبحر )) ،  في حين عمد العرب إلى الشعر ليكون ديوان وسجل مآثرهم بوصفه الوثيقة المعتمدة لديهم  ، لذلك كان البيان والايضاح بنية فاعلة في حضارتهم وابداعهم ، وقد تكون للصحراء أهمية خاصة في هذا المجال إذ يقول الجاحظ  : (( فكل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها ، وتحصين مناقبها ، على ضرب من الضروب وشكل من الاشكال ، وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر ..وكان ذلك هو ديوانها )) ، وكان هذا الامتزاج بين الحضارتين قد جعل من السودان ركيزة عربية اسلامية في القارة السوداء مثلما جعلها ركيزة الثقافة الافريقية في التفاعل العربي الانساني ، وهذه المزيّة هي التي جعلت من السودان ذات نسق  ثقافي خاص في البنية الفكرية والحضارية العربية الاسلامية.

أما التاريخ فقد تفاعل مع الجغرافيا  وعمل  على تحريك عملية التواصل الابداعي والحضاري وانتج مع الأجناس الأدبية التي عبرت عن ذاتها بالجمال في الابداع العربي (إذ يعد السودان جزء أصيلا فيه) ما يعزز القيمة الجمالية للآداب والفنون ،  وخاصة في الايقاع الذي يعد مكوناً رئيساً في الثقافة الافريقية وركيزة مهمة في الابداع العربي ، وكان ذلك النسق قد عبر عن ذاته في معظم الأجناس الأدبية  سواء أكان ذلك في الشعر والنثر أم في سائر الفنون الأخرى  كالموسيقى والرسم.

لذلك يمكن القول أن تفاعل عنصري الجغرافيا والتاريخ رسم  أساليب البناء وخاصيات  الابداع   في الأدب السوداني عامة والقصيدة السودانية بصفة خاصة ، وإذا كان  الاندماج  العروبي الزنجي أبرز مزية في تلك الثقافة   ، فان النسق الابداعي السوداني استطاع التوغل في أعمق بنيات الأدب العربي واستطاع في بعض الحلقات التاريخية أن يكون الحلقة الرابطة بين الأصالة  والتجديد ، مثلما استطاع أن يكون قوة الاستمرار في التقليد المتوارث في بنية الايقاع في القصيدة العربية ، وذلك بسبب رسوخ البنية الايقاعية للقصيدة العربية في الذائقة السودانية بشكل خاص. 

لقد استطاعت عملية التصاهر والاندماج بين العروبة والزنوجة  أن تتحول على مرّ التاريخ الى سياقات ثقافية  انتجت انماطاً  اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية  أثرت كثيراً في الأدب السوداني عامة وفي بنية  القصيدة السودانية خاصة   ، فالجغرافيا الناقلة باتجاهات النسغ الصاعد والنازل  بين السودان ومحيطه مثلت قوة الجمال  القادرة على الاحتواء والهضم بين مختلف الاداب والفنون ومثلت النمط القادر على البقاء والاستمرار والتطور في مستويات الابداع والفن.

وكانت هذه المزية أبرز أثر لموقع السودان العربي الافريقي ، وهناك بنيات أخرى وجدت تعبيرها في النسق الثقافي السوداني منها مقدرة تلك الثقافة وتأثرها بتداخل الرؤى الجمالية بين العرب والافارقة ،  ونقل الأطر الفنية العربية الى الافريقية مثلما نقلت الاطر الافريقية وصهرتها في العربية اللغة والثقافة بوصف هذه الأطر تمثل الامتداد الطبيعي للتكوين التاريخي للشعب السوداني  ،  فالبعد الزنجي المرتبط بالجانب الحسي المعتمد على طقوس المشاهدة والسماع المباشر والعقل الاسطوري  اندمج بالجانب الروحي في ثقافة العرب المعتمد على التجريد ومعرفة الله بظواهر الكون المختلفة من دون الحاجة الى العنصر الحسي خاصة بعد ظهور الاسلام ، وكان هذا التداخل بين الحسي والروحي قد انتج بنيته الثقافية التي تجلت في معظم الفنون والآداب ومنها القصيدة السودانية وتمثل ذلك في الاستدعاء المستمر للرمز التاريخي في رسالتها.

وقد أدرك    النقد العربي القديم والحديث ذلك الاندماج الثقافي بين العروبة والزنوجة من خلال الأثر الطربي للزنوج في الشعر العربي  ، لذلك ما أن  بدأ النقاد العرب القدماء  دراسة  الشعر العربي حتى  أدركوا  أن الأصل الطربي في القصيدة العربية يعود بشكل رئيس الى الزنوج ،  وذهب النويري في كتابه نهاية الارب الى ان (( الطرب عشرة أجزاء ، تسعة منها في السودان وواحد في سائر الناس )).

وهذه القضية تنبه اليها النقاد المحدثون أيضاً  ، ومنهم الدكتور محمد مصطفى هدارة   حين أشارا في كتابه تيارات الشعر العربي المعاصر  في السودان  الى أن عملية المزج الشديد بين العروبة والزنوجة ولدت خطاً روحياً حفر عميقاً ومازال في النفسية السودانية.

والحقيقة أن أهم عالم نتج عن ذلك المزج هو عالم التصوف الذي اختلطت فيه الظواهر الاسلامية بظواهر العرافة والكجور وتولد عنهما (تحت ضغط المؤثرات الافريقية) الانصراف عن الذات الالهية الى الذات المحمدية ، ويؤكد الدكتور بدوي  اثر ذلك التركيب النفسي والروحي على الثقافة السودانية وانعكاس تلك الثقافة في بنية القصيدة السودانية قائلاً :(( قرب هذا شعرهم الى حد ما من البسط القصصي وجعله يعتمد على الموسيقى أكثر من اعتماده على الصورة ، فهو في اكثر مراحله اعتمد على السماع والترنم )).

أما  عناصر البنية الايقاعية الأخرى في القصيدة السودانية فقد امتازت باستجابتها  لذلك الاندماج العربي الافريقي أيضاً  وتجلى  في استعمال البحور القافزة  إذ إن أكثر  البحور هيمنة  في الشعر السوداني وخاصة  عند الصوفية ( الرمل والهزج والخبب) وهي من البحور السريعة الراقصة في الشعر العربي ، هذا فضلاً على شيوع ظاهرة التكرار والقافية الصالحة للترنم والتي تلزم ما لا يلزم والايقاع الذي يتوافق مع الطبول المنشدة . 

وهذه السمات الايقاعية تدفعنا لملاحظة السياق الثقافي المؤثر والمتأثر في التكوين الحضاري والابداعي في السودان ، ولعل أبرز ما يمكن ملاحظته في ذلك القوة المهيمنة للوزن في القصيدة السودانية ، واتجاه قصيدة النثر في بعض مقاطعها نحو الايقاع المنتظم ، وتراجع الصورة احياناً امام الفكرة والمفارقة ، وتوغل الغنائية عميقاً في بنية القصيدة السودانية ، وتأخر استجابة هذه القصيدة للمتغيرات التي تحدث في الشعر العربي في مجالي التشكيل البصري والايقاع خاصة ، وهذه الملاحظات لا تؤشر وجود سلبية في تطور القصيدة السودانية المعاصر بل تؤكد رسوخ النمط في الذائقة الجمالية وكما سنثبت ذلك في مقال لاحق.

 

* رحل الكاتب عن عالمنا فى السنوات القليلة الماضية. كان قد أعد هذه المقالات فى تواصل خاص مع المشرف على النبض الإبداعي لنشرها.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *