بين العدالة والإقصاء في الساحة الفنية .. مـن يغسـل مـن؟!
Admin 1 مارس، 2025 24

راني السماني
تشكيلي وملحن
تفكيك لخطاب عبد الجبار عبد الله ٣ – ٣
ظل المرآة
> في مدينة بعيدة، وُجدت مرآةٌ عجيبة، لم تكن تعكس الوجوه، بل النوايا المخفيّة.
كان الناس يمرّون أمامها، يرون أنفسهم كما لم يروها من قبل، البعض كان يظهر بوجهين، والبعض بلا وجه على الإطلاق.
جاء رجلٌ مثقف، وقف أمام المرآة وابتسم.
ظنّ أن صورته ستكون نقيّة، لكنّه رأى في انعكاسه ملامح متشابكة، وجهٌ غاضبٌ ووجهٌ يبتسم، يدٌ تكتب النقد وأخرى تمحو الحقيقة.
تراجع خطوةً للوراء، فخرج صوتٌ من عمق المرآة، كأنه ظله يتحدث إليه.
«هل ترى ذاتك حقاً، أم فقط ما تود أن تراه؟»
ارتسمت على شفتيه ابتسامة واثقة: «أنا أرى الحقيقة».
ضحك الظل قائلاً: «بل ترى نصفها، أما النصف الآخر، فتدعه يتلاشى حيث لا تنظر.
تقدّم الرجل أكثر، مدّ يده ليختبر الحقيقة بنفسه، لكنه ما إن لامس الزجاج حتى تكسّرت المرآة إلى شظايا متناثرة.
لم تكن المشكلة في الانعكاس، بل في العقول التي اختارت أن ترى نصف الحقيقة، متجاهلة ما تبقى منها.
وما بين قصة المرآة ومقال عبد الجبار عبد الله (ظاهرة غسل البشر وإعادة تدويرهم)، يتكرر المشهد:
تظل المرآة تعكس ما تختار العقول فهمه، لا ما هو كامن في الحقيقة.
أولاً، ظلم المبدعين الوطنيين
في المقال المشار اليه، يُوجّه عبد الجبار عبدالله، اتهاماً مبطناً لمجموعة (المبدعون السودانيون) باعتبارها منصة لإعادة تدوير وغسل البشر، لكن هذا الطرح يغفل حقيقة أن هذه المجموعة تضم نخبة من الفنانين والمبدعين الذين ظلوا في الخطوط الأمامية للنضال ضد النظام البائد، ودفعوا ثمناً باهظاً لمواقفهم المبدئية.
فمنهم من تعرّض للاعتقالات المتكررة، ومنهم من ذاق التعذيب داخل بيوت الأشباح سيئة السمعة، حيث مورست عليهم أبشع الانتهاكات من قبل أجهزة الأمن القمعية.
ومع ذلك، لم ينكسروا، ولم يساوموا، ولم يتخلوا عن مبادئهم أو يتراجعوا عن قول الحق في وجه الطغيان.
اتهام الكاتب لهم ضمناً بعدم الوعي أو التهاون مع ظاهرة «إعادة التدوير» فيه ظلم واضح، كما أنه يفترض أن موقفهم يعكس غفلة أو تساهلاً، بينما قد يكون تقييمهم للأمور أكثر شمولاً ودقة في سياق التحديات الراهنة التي تمر بها البلاد، حيث تحتاج الثورة إلى توحيد الجهود بدلاً من الانقسام.
كان الأجدر بالكاتب أن يطرح السؤال الصحيح:
لماذا تبنّت هذه المجموعة موقفها؟
وهل يمكن أن يكون تقييمها للوضع أكثر وعياً بحساسية المرحلة بدلاً من اختزاله في ثنائية الأبيض والأسود؟
ثانياً، الاحتواء بدلاً من الإقصاء
عندما يختار شخصٌ ما تغيير موقفه والانحياز للثورة، يجب أن نمنحه الفرصة للمساهمة في البناء، لا أن ندفعه للعودة إلى المعسكر المعادي. فالاحتواء لا يعني التغاضي عن الأخطاء، بل يشترط:
1- الاعتراف بالخطأ والاعتذار العلني للشعب السوداني:
فكل من دعم النظام يجب أن يعترف بدوره السابق، لأن أي محاولة للتهرب من هذا قد تُضعف الثقة الشعبية في الموقف الجديد للفنان.
2- الالتزام بالمستقبل الثوري:
يجب أن يظهر التزاماً عملياً بدعم الخط الثوري، سواء عبر أعماله أو مواقفه العلنية، كمثال الإدانة الصريحة للانتهاكات.
وبالتأكيد، هذا لا يعني أن كل مراجعة يجب أن تُقبل دون تمحيص، بل يجب أن تكون مصحوبة باعتراف واضح ومسؤولية تجاه الأخطاء السابقة. فالمحاسبة والعدالة لا تعنيان فقط فتح الباب أمام التائبين، بل تتطلبان ضمان أن يكون هذا التراجع حقيقياً، وليس مجرد خطوة تكتيكية لركوب موجة الثورة.
مع الوضع في الاعتبار أن الفن كأداة يمكن أن يكون وسيلة للتضليل أو وسيلة للتغيير، ويقع على الفنانين الذين دعموا النظام أن يثبتوا تحولهم من أدوات دعاية إلى أصوات حقيقية تعكس آمال وتطلعات الشعب.
فإذا لم يظهر الفنان موقفاً صريحاً وواضحاً في هذا الصدد، فإن الشعب السوداني له كامل الحق في التشكيك في نواياه.
وهنا يبرز مثال الراحل المقيم، محجوب شريف، شاعر الشعب الأول، الذي لم يتردد في الاعتراف بأخطائه السابقة، بل واجهها بشجاعة جعلته أكثر احتراماً في نظر الشعب.
فبعد أن كتب في شبابه قصيدة «حارسنا وفارسنا» التي تغنى بها الراحل محمد وردي دعماً لنظام مايو، عاد لاحقاً ليحاسب نفسه علناً قائلاً:
«يجب أن يحاسب الشاعر نفسه، كنت صغيراً ولم يكن لدي الوعي الكافي، واليوم أستطيع أن أقول إن فارسنا وحارسنا في مزبلة التاريخ».
لم يكتفِ بذلك، بل رفع مطولاً لافتة كُتب عليها بوضوح:
«لا حارسنا لا فارسنا ولا مايو الخلاص.»
كما أوضح رؤيته حول علاقة الفنان بالسلطة قائلاً:
«لا بد من مسافة بين الشاعر والنظام، حتى ولو تطابق النظام مع ما تؤمن به. لكنني أستطيع أن أقول إنني لم أتاجر بـ«حارسنا وفارسنا»، ولم تصافح يدي قط أحد رموز مايو، فلم أكن انتهازياً ولا مأجوراً.»
هذا النموذج يُظهر أن الاعتذار الصادق والمراجعة الحقيقية يمكن أن تُعيد للفنان احترامه ومكانته، إذا كانت قائمة على أفعال ملموسة وليست مجرد تبديل مواقع عند تغيّر الظروف.
ثالثاً، نقطة للتأمل قبل النقد
رؤية الأمور لا تخضع لمنظور واحد، وهذا ما كان يمكن للكاتب أن يضعه في اعتباره.
الكثير من هؤلاء المنضمين الي مجموعة (المبدعون السودانيون)، و بحكم خبراتهم ومواقفهم السابقة، لا تنقصهم البوصلة الأخلاقية، ولا الوعي الكافي بواقع الصراع، بل يؤمنون بالمحاسبة والعدالة، لكن برؤية شاملة لا تقتصر على جلد الذات أو إقصاء كل من أخطأ بلا فرصة للمراجعة.
بمعنى آخر، هم يوازنون بين المساءلة والاحتواء ضمن رؤية أوسع للثورة ومستقبل السودان.
فإذا كان الكاتب يدعو للمساءلة من أجل الإصلاح، فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح هو:
»هل يمكن أن تكون هذه المجموعة قادرة على تقييم الأمور بشكل يتجاوز منظور النقد وحده، ليشمل استراتيجيات أكثر فاعلية في بناء مستقبل السودان؟»
إن الثورة لا تُبنى باطلاق الاتهامات ولا بالإقصاء العشوائي، بل بالمحاسبة العادلة والاحتواء الواعي.
فالتغيير الحقيقي لا يحدث حين نرفض الاعتراف بالمواقف المتبدلة، بل حين نفرّق بين التوبة الصادقة والتلاعب السياسي.
رابعاً، إشكالية التناقض
في موقف عبد الجبار عبد الله
في حين يقر الكاتب بأن بيان (المبدعون السودانيون) يحمل مضموناً إيجابياً حول الدعوة إلى المساءلة ووقف الانتهاكات، فإنه يطعن في مصداقيته بناءً على توقيع بعض الأسماء.
هذا التناقض يجعله يبدو وكأنه يتفق مع البيان في المبدأ، لكنه يرفضه بسبب أسماء محددة، وهو ما قد يحوّل القضية من نقاش حول العدالة والمحاسبة إلى تصفية حسابات شخصية.
إن الحكم على المبادرات السياسية والفكرية لا يجب أن يكون مرتبطاً بالأفراد أكثر من المبادئ، لأن ذلك يُضعف النقاش حول جوهر القضية ويحوّله إلى معركة بين أشخاص بدلاً من صراع حول القيم.
التاريخ مليء بأمثلة لثورات لم تنجح لأنها سقطت في فخ التطهير الأيديولوجي، حيث تم نبذ كل من لم يكن في الصف الأول منذ البداية، مما أدى إلى عزلة الحركات الثورية وفشلها في بناء تحالفات واسعة.
إن القدرة على التمييز بين التوبة الصادقة والتلاعب السياسي ليست فقط مسألة أخلاقية، بل هي ضرورة استراتيجية لضمان استمرار الثورة وانتصارها.
أخيراً، من يغسل من؟
يكفي ما يحدث في السودان الآن من اعتقالات وتصفيات للثوار والأبرياء، تارة باسم «متعاونين»، وتارة باسم «فلول».
فالسودان اليوم ليس بحاجة إلى محاكم تفتيش فنية، ولا قوائم سوداء تلاحق كل من أخطأ في موقف ما، بل إلى معايير واضحة للمساءلة، لا تقتصر على الفن وحده، بل تشمل كل من كان له تأثير في المشهد العام.
إذا كان بعض الفنانين قد أخطأوا، فلهم أن يتحملوا مسؤولية أفعالهم، لكن لا يمكن محاكمتهم بلا نهاية، وكأن التصحيح مستحيل.
فالمحاسبة لا تعني العزل الأبدي، كما أن المراجعة لا تعني التبرئة التلقائية أو الغسل، بل يجب أن تكون هناك مساحة للحوار، دون أن تتحول المحاسبة إلى سلاح للإقصاء المطلق.
إن كان لا بدّ من مساءلة، فلتكن عادلة وشاملة، بلا استثناءات أو انتقائية، لأن المساءلة التي تستهدف فئة دون أخرى تفقد شرعيتها، وتتحول إلى تصفية حسابات أكثر من كونها سعياً لتحقيق العدالة.
ختاماً:
ليس كلّ من يحكم على الآخرين يعرف حقيقتهم، فهناك من يفترض أنّه يفهم، بينما هو لا يرى سوى ظلال أوهامه.
واليقين الزائف أخطر من الجهل، لأنّه يجعل صاحبه يظنّ أنّه على صواب دوماً، حتى وهو يرتكب الخطأ.
– يتبع بملحق توضيحي لاحقاً
شارك المادة