بينَنَا وَعدٌ اخْتَطَفَهُ الرَّحِيلُ

30
معتصم تاج السر

م. معتصم تاج السر

محرر صحفي ومعد صفحة السودان الأخضر (فويس)

• في حياة كل إنسان هناك أشخاص لا يمرّون عبوراً عابراً، بل يسكنون القلب ويتركون فيه نبضاً دائماً لا يخبو حتى وإن رحلوا.

هم أولئك الذين يضيئون دروبنا بوجودهم، وينثرون الدفء في تفاصيل أيامنا، وحين يغيبون تغيب معهم المحبة الصادقة والصحبة الحسنة. 

وقد كان «عم بكري» أحد هؤلاء، فقد كان هو الجار الذي صار عمّاً والعمّ الذي صار صديقاً.

رحل أحد عرّابي صناعة الجلود في السودان السيد/ أبوبكر إبراهيم الطيب عبد السلام.

لا يُذكر اسمه إلا وتُذكر مجاهداته في توطين هذه الصناعة، وحرصه العميق على مستقبل السودان في شتى ضروب الاقتصاد والانفتاح والتجارة الدولية. 

لم يكن مجرد رجل أعمال، بل كان مؤمناً بأن الاقتصاد رسالة، وبأن الوطن يستحق الاجتهاد والتفاني والإخلاص في كل تفصيلة تُعلي من شأنه.

غادر الفانية وهو في أشدّ الوجع على السودان، وفي قلبه حريق لما آل إليه حال البلاد من خراب ودمار. 

غادر وهو يكتم في صدره حزناً عميقاً لا يعرفه إلا من عرفه عن قرب.

غادر الفانية وجعاً وكمداً على السودان وأهله، على بيوت أُحرقت، وأرواحٍ شُردت، ومدنٍ تهدمت، وعلى شعبٍ نازف ينتظر فجراً لا يأتي.

وااااا غلاوة التمن لهذه الحرب…!

تلك التي أخذت من أعمارنا وقلوبنا أكثر مما أخذت من أرضنا.

كيف لي أن أعود إلى الحي في الخرطوم «المعمورة» وأحد أركانهِ التي كانت تُضيء المكان قد انطفأ؟  

لقد غادرتَ يا عم بكري وخلّفتَ في القلب فراغاً لا يملؤه سوى الحنين، وفي الذاكرة حداداً طويلًا لا ينتهي.

كان بيننا وعد…!!!

وعد أن نلتقي في القاهرة لنكمل حديثنا الواعد عن صناعة الجلود والمستقبل والأسواق والفرص. 

كنت متشوقاً لحكاويه الصافية، وتجاربه الثرة، التي تنساب كحكمة نادرة في زمنٍ قلّ فيه العقلاء.

إن إيمانه الراسخ بقناعاته جعلني أحمل احتراماً مضاعفاً لتجربته وأخلاقه العالية.

وصلتُ القاهرة التي كان لنا بها وعد اللقاء…! 

وصلتها لا لأجل ذلك الحديث المنتظر الذي اختطفه الرحيل…!

بل على نية الذهاب إلى أسرته الكريمة معزياً فيه، ومن ثم أن أطلب منهم أن يأخذوني إلى قبره لأُلقي عليه السلام والدعوات.

لكن لأن المحبة بيننا كانت أعمق، ولأن الأقدار تمضي بتدابير من لدن العليم الخبير سبحانه وتعالى، تدابير لا نفهمها إلا حين نقف أمامها…! 

فقد شاء الله أن أذهب إلى مقابر السيدة عائشة بالقاهرة القديمة في تشييع والدة أخ عزيز- نسأل الله لها الرحمة والقبول. 

وبعد الفراغ من التشييع وإذا بعيني تقع فجأة على شاهد يحمل عبارة:

«هنا مدفن المغفور له/ أبوبكر إبراهيم الطيب»

يا لهول اللحظة… 

ويا لرهبة المصادفة… 

لقد ساقني القدر لأن أزور قبره قبل أن أعزي في رحيله، وأن أصل إليه لا بقدميّ بل مجروراً من قلبي الذي كان يبحث عنه دون أن يدري.

وقفت هناك مشدوهاً، خاشعاً، دامعاً، أُسلّم على رجلٍ لم يمت في داخلي، بل يعيش، كما عاش دوماً، في الطيبة، والصدق، والنُبل.

لقد كان بيننا تواصل لا ينقطع في الحلِّ والترحال، فما زلتُ أحتفظ برسالته التي بعث بها إليّ يوم خروجه مرغماً من داره بالخرطوم، وسمّاها بنفسه: «رحلة النزوح واللجوء». 

كتب إليَّ قائلاً:

• «تمام الحمد لله.

أنا داخل البص إلى بورتسودان إن شاء الله.

الأولاد والأحفاد إلى القاهرة الآن.

من أشد الأشياء مرارة، وغُصَص تطعن في الحلق، ودموع تُحبس، وقلوب تنفطر، وعَبَرات تريد أن تنفجر دماً، أن تترك دارك حتى يُسمّوك نازحاً في وطنك، أو لاجئاً في المهجر، وتكون مكسور الوجدان يا ولدي.

هذا الوطن كان لنا، وكنا نعيش في لُحمة مجتمعية طاهرة عفيفة، من أقصى غربه إلى أقصى شرقه. 

كان المجتمع السوداني يعيش في حب ووِدّ ودعاء وتصافٍ وتعافٍ.

فساد الساسة، منذ الاستقلال وحتى الآن، لم تكن لهم رؤية، ولا خيال، ولا وعي عالٍٍ لإدارة النسيج الاجتماعي لهذا الشعب الجميل.

همّشوا الجنوب فانفصل، همّشوا أهلنا في الغرب فانتفضوا وثاروا، لكن قُمِعوا بقوة مفرطة فقُتِل الشباب، ورُمّلت النساء، وتيتِم الأطفال.

همّشوا الشرق تماماً، فجعلوا منه قنبلة موقوتة ستنفجر».

يا لصدقك عم بكري… 

ويا لحجم الألم الذي كنت تحمله في قلبك بصمتٍ حكيم. 

لم تكن كلماتك مجرد وصفٍ لحال وطنٍ ممزق، بل كانت نبوءة رجلٍ رأى بعين القلب ما لم يره كثيرون، وكتب بوجدان ناصع كقلبه المكسو بالفقد والألم.

ولكنه قلب مثقل بالمُحبة لهذا الوطن حتى الرمق الأخير.

يا عم بكري …

نسأل الله لك القبول والرضوان، فكل من عرفك يدعو لك، وكل من مرّ بك يحفظ لك جميلك وذكراك.

وداعاً يا عم بكري… 

يا نبع المحبة والجيرة الطيبة والسماح.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *