عوض الكريم فضل المولى
كاتب صحفي
• في زمنٍ تتسابق فيه الأمم لإحياء تراثها الثقافي والفني، واستلهام ماضيها الحضاري في بناء حاضرها وتأمين مستقبلها، يبدو أننا في السودان نسير في الاتجاه المعاكس. فبينما يتحدث العالم عن الثقافة كقوة ناعمة تصنع السلم والاستقرار، تُغرقنا بعض الأيديولوجيات في مشاريع فكرية مشوّهة باسم «النهضة» و»الحضارة» و»الصحوة»، لم تحصد البلاد منها سوى الفوضى والانقسام والفقر والجوع والدمار.
بل أصبح السودان أرضاً وشعباً معملاً وحقل تجارب للأيديولجيات المستوردة والنظريات الإسلامية المنبوذة في أرض نشأتها ومهدِ ميلادها.
إرثٌ كان يكفينا… لو بقينا عليه
لقد ورثنا من آبائنا وأجدادنا منظومة من القيم والحضارات والثقافات التي لا تُقدّر بثمن: المروءة، الكرم، الحكمة، المشورة والمشاركة، والاحترام المتبادل. كانت هذه القيم أقوى من أي دستور مكتوب، وأقدر على حفظ توازن المجتمع من أي مؤسسة حكومية رسمية.
في القرى والمدن، كان «كبير البلد» هو المرجع، لا بسلطان القوة، بل بحكمة التجربة والاحترام، وبقدرته على جمع الناس لا تفريقهم. لا يُتخذ قرارٌ دونهم، ولا يُحسم خلافٌ دون رأي الجماعة. كانت المصلحة العامة مقدّمة على الذات، وكان الاختلاف يُدار بالحوار لا بالإقصاء وفرض القوة.
لكن أين نحن اليوم من ذلك الإرث؟ لقد تراجع دور الحكمة أمام صوت السلاح، وغابت المرجعية الاجتماعية أمام انقسام الولاءات، حتى صار الحوار ترفاً لا يُمارَس إلا بعد أن تُراق الدماء أو كل الدماء، وتُهدم البيوت، وتنهار البنى التحتية.
حروب بلا بوصلة… وشعارات بلا مضمون، أو تصمم شعاراتها وأهدافها بعد اندلاعها.
من المفارقات المؤلمة أن تُخاض الحروب في السودان باسم الكرامة والحرية والعدالة، بينما تُسلب هذه القيم نفسها من أرض الواقع، ثم تكون هي سبباً لاستمرارها. لم تكن تلك الحروب سوى انعكاسٍ لفشلٍ فكري وأخلاقي قبل أن تكون فشلاً سياسياً. فقد انطلقت من تصورات أحادية لا ترى في الوطن إلا مرآةً لأيديولوجيا أو مشروع سلطة. واليوم، بعد سنوات من الدماء، لم نجنِ سوى وطنٍ مثخن بالجراح، ومجتمعٍ أنهكته الأزمات.
حين يغيب العقل الجمعي
يقول أحد شيوخ الإدارات الأهلية في دارفور: «زمان لما يحصل خلاف، نجتمع في الضل ونحلّها بالكلمة، لكن الليلة كل زول شايل بندقيته بدل رأيه».
هذه المقولة تختصر مأساة التحوّل في البنية الاجتماعية والسياسية للسودان. فقد غابت منظومة القيم التي كانت تُوجّه السلوك الجماعي، وحلّت محلها روح الفردية والاندفاع الأيديولوجي، حتى صار من الصعب جمع الناس حول كلمة سواء.
العودة إلى الأصل… ليست رجعية بل خلاص
إن طريق الخلاص لا يمر عبر الشعارات أو المواثيق السياسية وحدها، بل عبر إحياء منظومة القيم التي كانت عماد المجتمع السوداني: قيم المشورة، التسامح، التكافل، وحب الخير.
هذه ليست دعوة للعودة إلى الماضي كما هو، بل دعوةٌ لاستلهام روحه في بناء الحاضر. فالأمم التي تنهض، تنهض من جذورها، لا من انقطاعها عنها.
لقد آن الأوان لأن نسأل أنفسنا: كيف نعيد للسودان مكانته ووجهه الإنساني الذي عرفه العالم؟
الجواب يبدأ من داخلنا، من إعادة الثقة بقيمنا وبحكمتنا السودانية الأصيلة التي جمعتنا يوماً قبل أن تفرقنا الشعارات.
فبغير هذه العودة، سنبقى ندور في دوامة صراعٍ لا نهاية لها، ونفقد ما تبقّى من وطنٍ كان يمكن أن يكون نموذجاً للسلام والتعايش لو حافظ على إرثه وقيمه السمحة.
شارك المقال
