بلاد زاخرة بالمنظِّرين

8
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

تعدادنا الحالي ٤٠ مليون نسمة، منهم ٢٠ مليون سياسي، ومثلهم خبراء استراتيجيون في شؤون الحروب.

وبين هذا وذاك نشطاء، بحركة ومن دونها، قابعين في انمحاص.

وباحثين فينا.. وعنا… وعلينا..

ومطلعين على شأن.. ليس من شأنهم. ومختصين في أمرنا.. بلا أمر.

جميعهم وعلى كثرتهم، وفي اعتقادهم، يتبنّون ويدافعون عن وجهة نظر العامة، وحريصون بإلحاح، من وجهة نظرهم، على إنارة البصيرة والعقول باستدامة لا تنقطع… طمعاً في سودان معافى من (العاهات) والتشوُّهات والآفات.

حتى سالت وانماعت نسبنا الرقمية، وتخطت مئاتها من فرط تنظيرنا المتغابي.

ليس عليك سوى (تشنيق) طاقيتك وإمالتها قليلاً إلى الجهة اليسار من الدماغ، و(سفَّة مدنكلة) من أقرب عماري ممتاز، ثم تبدأ بإعطاء دروس على الهواء الطلق لجيشنا الهمام، في كيفية المساندة والقطع والهجوم من محور واحد. وجدوى العمل على خط دائري مقفل لتوزيع المهمات.. مع خطة محكمة لتنفيذ الالتفافات المزدوجة..

مع التأكيد على دور الجيومورفولوجي وأهميته في وضع خطط الهجوم.

ثم لا ينسى أن يحدد لطائراتنا فاصل الارتفاع، وكيف تكون نظرية الاحتمالات.. وأين يمكن حساب مسافة الخطأ المؤثر، ومتى ينفذ التحريم الجوي.

ولا بأس إن أعطى بعض النصائح في مدى الاستفادة من الطبوغرافيا العسكرية.

ولا ضير في إضاءات خاطفة لكلٍّ من أوامر التقدم والالتفاف والتوقف وتغيير محاور التقدم والقتال وتغيير المهمات.

بل قد يصل الأمر أن يضع لنا تكتيكاً عسكرياً متكاملاً يصلح لكل زمان ومكان.

المضحك المبكي، أن هذه النصائح المجانية الموزعة على الملأ بلا حسيب، يهديها إلى ضابط عظيم كان في يوم من الأيام طالباً حربياً يحمل شهادة سودانية، يقضي بعدها سنتين من التدريبات الشاقة في الكلية الحربية، ويتخرج برتبة ملازم، وبعدها بسنتين يترقى لرتبة ملازم أول.

ثم يخضع لدورة قادة فصائل مدتها ستة أشهر، يتم تدريبه فيها على جميع أنواع الأسلحة والتكتيكات العسكرية والقيادة على مستوى الفصيلة، وإذا لم ينجح فيها لا يترقى للرتبة الأعلى (نقيب).

وفي رتبة نقيب يخضع لدورة قادة سرايا ومدتها ستة أشهر أيضاً، يتلقى فيها مهارات التكتيك العسكري على مستوى السرية، ثم يجلس بعدها لامتحان ترقية لرتبة الرائد.

ومن هذه الرتبة يخضع لدورة أركان صغرى، يتعرف فيها على أنواع المراسلات العسكرية، وغيرها من الأمور المكتبية والقيادية.

ثم يخضع بعد ذلك لدورة قادة وأركان في كلية القادة والأركان، لنيل الماجستير في العلوم العسكرية والإدارية. إذ إنّ الضابط الذي لا ينال الماجستير أعلاه، لا يترقى إلى رتبة اللواء، ويحال إلى المعاش.

هذا بالإضافة إلى التجارب العملية الوافرة، والحروب المتنوعة التي خاضها الضابط في مسيرة حياته.

ومع ذلك، يتكئ صاحبنا (الاستراتيجي) على (بنابر) الصياح الصباحية، ليهديه نصائح من على (راكوبة) ست الشاي، المخدومة برائحة البخور.

يشتري بضاعته من سكات، ويذهب إلى الطبيب مطبقاً فاهه بلا ترهات، ويستعين بالمهندس بلا نطق يحكيه، ويلجأ للمحامي ليتحدث نيابة عنه. وينسى كل هذه النصائح والتكتيكات عند أول (٩ طويلة) يواجهه في طريق نائية. فيغفل عن كلِّ فنون الدفاع عن النفس كأنما ضرع الطير على رأسه وتكرّى، فيمسه الاختبال.

لا ظنة يبديها، ولا إبلال نراه.

إلا في جيش بلاده، فتراه يوزّع مواعظه بلا هداية. وعظاته بكامل التجهيل ولا خفارة يبديها.

لا نجاح لأيِّ مجتمع دون تكامل، ولا تكامل دون معرفة كل فرد ما له وما عليه، وما هو من شأنه وما هو ليس من شأنه، وما هو مهم وما هو أهم، كما أنه لا استقرار ولا توازن للمجتمع دون إدراك لقائمة الأولويات، ومعرفة ما يجب تحصيله من المصالح، وما يجب درؤه من المفاسد، وما هو من الاختصاص وما ليس من الاختصاص. ذلك كله كي لا تختلط الأمور، ولا تتبعثر المصالح، ولئلا يصبح الناس فوضى لا سراة لهم.

أهلنا الطيبون..

ما المانع أن يكون سلاحنا العقل وليس اللسان.. وضربتنا القاضية هي الصمت وليست كثرة الكلام..

قال أمبرتو إيكو الروائي والناقد الأدبي والفيلسوف والأكاديمي الإيطالي: “أدوات مثل تويتر وفيسبوك وواتساب، تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأيّ ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً.

أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.

إنه غزو البلهاء”.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *