يطل علينا عيد الفطر للمرة الثانية خارج بلادنا ونحن في شوق وترقب، ولكن في هذه المرة سبقت العيدَ بيوم أو يومين بشرياتٌ جعلت الفرحة فرحتين، فقد هبت الخرطوم في أواخر رمضان وضمدت بالعزم هاتيك الجراح. وإننا إذ نحتفي بهذه المناسبة، نتذكر ما حدث قبل عامين، نتذكر الذعر الذي حلّ بأهل الخرطوم في اليوم الرابع والعشرين من رمضان/ الخامس عشر من شهر أبريل، نتذكر كيف حاصرتنا الهموم عقب حصار أجناد المخربين للمدينة، ونتذكر إفطاراتنا في أواخر رمضان تحت دوي المدافع، ونتذكر كيف كان عيدنا وقد أدينا صلاة العيد وأصوات الأسلحة والذخائر تنفُذُ بين تكبيراتنا. لم يكن الناس حينها آمنين في بيوتهم، فقد كانت تطالهم أدوات القتل في عقر دارهم. وكانوا أخوف ما يكونون على أعراضهم، فإن اقتحامات المتمردين ليس الغرض منها كشف العسكريين، وإنما إذلال الناس وقهرهم، وكانوا يلجون خدور النساء بلا وازع ديني ولا رادع أخلاقي، ثم نتذكر كيف استشرت الحرب في أرجاء متعددة من السودان، وكيف سقطت عدة مدن – بعد العاصمة المثلثة -في أيدي المفسدين في الأرض، بداية من ود مدني، ثم سنجة التي كان سقوطها قاصمة ظهر لنا جميعاً، ونتذكر قرى الجزيرة والمجازر التي حلّت بأهلها، ونتذكر ما حدث في إقليم دارفور من قتل وتشريد وانتهاكات وتعدياتٍ لا تحصى لمدنيين عُزَّل لا حول لهم ولا قوة، وعلينا أن نستشعر عظمة الله سبحانه الذي أنجدنا وأذهب عنا البأس، وتفضل علينا بانحسار أمواج التخريب، وكسر شوكة المخربين، ونعظم شعائره بالفرح بالعيد الذي عاد وحالنا قد تبدل خيراً، وذلك من نعم الله الذي له الحكمة البالغة والحجة الدامغة وأمره نافذ، لكنه سبحانه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وقد يملي الله لظالمي أنفسهم فحذار حذار.
ولا يغيب عنا أن أجزاء واسعة من البلاد لا تزال واقعة تحت وطأة المفسدين، وكذلك لا يغيب عنا أن البلاد لا تزال تعاني من عدة ويلات خلاف ذلك، وهي قديمة قِدم الدولة نفسها، وما كانت هذه الحرب إلا إحدى تبعاتها، ولكنها أحدثت شرخاً هو الأعظم في تاريخ السودان الحديث.
وهذا الشرخُ لا بدّ له من ترميم، وقبل ذلك يلزم معالجة أسبابه التي دعت إليه، لتستطيع البلاد تجاوز هذه المحنة والمضي قدماً.