الوظيفة العامة.. تكليف لا تشريف ومسؤولية لا امتياز

21
د. حاتم محمود عبدالرازق

د. حاتم محمود عبدالرازق

لواء شرطة متقاعد - محام ومستشار قانوني

• لا تزال النظرة إلى الوظيفة العامة في مجتمعاتنا تعاني قدرًا من التشويش؛ إذ تُختزل أحيانًا في كونها وجاهة اجتماعية أو وسيلة للنفوذ، مع أنها في جوهرها تكليف ومسؤولية، وخدمة للأمة لا مجال فيها للتعالي أو الامتياز. فالوظيفة العامة، في بنية الدولة الحديثة، هي الأداة التي يباشر بها الجهاز الإداري دوره في صون الحقوق وتيسير شؤون الناس، وبه تُجسّد الدولة حضورها اليومي في حياة مواطنيها. ومن ثم، فإن الموظف العام ليس «صاحب سلطة» بقدر ما هو «أمينٌ على مصلحة عامة»، يؤدي واجبه تحت رقابة الله والناس، وينهض بمسؤولياته بوصفه خادمًا لوطنه وأهله.

ويقوم هذا البناء على قاعدة ذهبية: أن يكون شغل الوظيفة قائمًا على الكفاءة والنزاهة لا على المحسوبية أو النفوذ. 

فعندما تتقدم القرابة والانتماءات الضيقة على معايير الجدارة، تتبدد الطاقات، وتُهمّش الكفاءات، ويترهل جسد الدولة، وتظهر بؤر الفساد، وتضيق مسالك العدالة. وقد قرر القرآن هذا المبدأ الخالد في قوله تعالى:

(إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)، فالقوة تعبير عن الكفاءة، والأمانة تعبير عن النزاهة، وهما عماد كل مسؤولية عامة تُرجى لها الثمار.

وقد أولى ديننا الحنيف شأن الوظيفة العامة اهتمامًا عظيمًا؛ فجعل السعي في مصالح الناس بابًا من أبواب القرب والطاعة. فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له؛ أثبت الله قدمه يوم تزلّ الأقدام». فخدمة المواطنين، والعدل بينهم، وإنجاز معاملاتهم دون محاباة أو تسويف، ليست مجرد واجب وظيفي، بل قربة يتقرب بها العبد إلى ربه، وسبب لطمأنينة المجتمع وثقة الناس  بمؤسساتهم.

والأصل أن الموظف العام هو الصورة الأكثر حضورًا للدولة في نظر المواطن؛ فالتزامه بالسلوك الكريم والانضباط المهني ليس أمرًا ثانويًا، بل هو معيار لهيبة النظام وصدقية أداء الدولة. ولذلك فإن احترام المواعيد، والاهتمام بالهيئة، والمحافظة على وقت العمل، والتعامل بلباقة واحترام – كلها أخلاقيات لازمة للوظيفة، لا مجرد مظاهر شكلية. ومن المؤسف أن تُرى ممارسات تخالف هذه القيم؛ كاستخدام المركبات الحكومية في الأغراض الخاصة، أو التساهل والتسيّب، فيضيع الوقت في مكالمات لا علاقة لها بالعمل، أو يغادر الموظف مكتبه لقضاء شؤونه الخاصة، بل وقد يغيب كامل الطاقم لأداء واجب عزاء خلال ساعات العمل الرسمية. مثل هذه التصرفات تنخر في جسد الثقة العامة، وتزرع الشعور بعدم المساواة، وتضعف هيبة القانون.

ولأن الوظيفة العامة أمانة عظيمة، فإن إعداد الأجيال لصونها لا ينبغي أن يُترك للمصادفات؛ بل يجب أن يبدأ مبكرًا من خلال المناهج والأنشطة التربوية، لتتشكل لدى الناشئة ثقافة تقوم على احترام القانون، ونبذ المحسوبية، والإيمان بأن العمل العام واجب وطني وأخلاقي. فمن تربّى على تقدير المصلحة العامة واحترام النظام، كان أقدر على القيام بأعباء المسؤولية حين يتولاها.

وإذا أُحسن اختيار الموظف العام، فإن ذلك ينعكس في ثمار كثيرة: تتحقق العدالة الإدارية، ويرتفع الأداء المؤسسي، وتُحصّن الدولة ضد الفساد، ويزداد رضا المواطنين، وتتعمق الثقة  بمؤسسات الحكم، ويُمهَّد الطريق لإصلاح حقيقي لا يقوم إلا على وضع «الرجل المناسب في المكان المناسب».

وفي خاتمة هذا التذكير، يبقى من الواجب أن نغرس في نفوس الجيل الجديد أن الوظيفة العامة ليست بابًا للتفاخر أو الاستعلاء، بل ميدانٌ للبذل والتضحية وخدمة الناس. هي مسؤولية وطنية، وأمانة دينية، وواجب أخلاقي. وعلى الدولة أن تحمي أبواب التوظيف من المحسوبية، وأن تعلي معيار الكفاءة، وأن تعيد الاعتبار لقيمة الجدارة؛ فبذلك تُبنى المؤسسات، ويُصان العدل، وتُسترد ثقة المواطن، ويُشق الطريق نحو غدٍ أفضل.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *