الوضع الأمني في الخرطوم.. المهددات والفرص المتاحة

18
د. حاتم محمود عبدالرازق

د. حاتم محمود عبدالرازق

لواء شرطة متقاعد - محام ومستشار قانوني

 مقدمة

•  تمر العاصمة السودانية الخرطوم بمرحلة حرجة من تاريخها، بعد أن طالتها تداعيات الحرب التي اندلعت في أبريل 2023، وما نتج عنها من انهيار لمؤسسات الدولة وتدمير للبنى التحتية، إلى جانب الاحتلال المؤقت الذي فرضته قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من العاصمة. وفي ظل هذه الأوضاع، تبرز الحاجة الماسة إلى وضع تصور شامل لاستعادة الأمن والاستقرار، يستند إلى تقييم واقعي وتحليل دقيق للبيئة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية. ومن الجيد أن الدولة بادرت بتشكيل لجنة عليا لتفريغ العاصمة من العناصر المسلحة، وهي خطوة إيجابية ينبغي دعمها وتطويرها.

أولاً: تحليل الوضع الراهن

1. نقاط القوة

وجود قوات نظامية فاعلة: لا تزال الدولة تحتفظ ببنية عسكرية وأمنية متمثلة في الجيش والشرطة وجهاز الأمن وبعض القوات المساندة، وهي تتمتع بتدريب جيد يؤهلها للقيام بدورها متى ما تم دعمها وإعادة هيكلتها.

خلو العاصمة من قوات الدعم السريع: يعد دحر الدعم السريع من العاصمة مكسبًا استراتيجيًا يمهد الطريق لاستعادة الأمن تدريجيًا.

عودة تدريجية للمواطنين والخدمات: بدأت مؤشرات إيجابية تظهر في عودة المواطنين إلى بعض الأحياء، وعودة الكهرباء والمياه والسلع الأساسية ولو بشكل محدود، ما يشير إلى بداية تعافٍ نسبي.

تماسك الدولة رغم المحنة: استمرار بعض مؤسسات الدولة في أداء مهامها، وتشكيل «حكومة الأمل»، وبوادر عودة الجهاز الحكومي للعاصمة، كلها تعكس إرادة وطنية لتجاوز الأزمة.

2. نقاط الضعف

تفكك مؤسسات الدولة: تعرضت أجهزة الدولة، بما في ذلك الأمنية، لخلل هيكلي عميق، يتطلب إعادة بناء شاملة وتدريبًا وتأهيلاً للعناصر والتجهيزات.

الوجود المكثف للقوات داخل العاصمة: على الرغم من ضرورته الأمنية، إلا أن هذا الوجود قد يثير مخاوف بين المواطنين، خصوصًا في ظل التباينات في الولاءات والانتماءات داخل بعض التشكيلات.

الدمار الواسع للبنية التحتية: شملت الأضرار الطرق والجسور والمطارات والمستشفيات والمدارس والمقار الحكومية، مما زاد من تعقيدات إدارة الشأن العام وضبط الأمن.

الوجود الأجنبي غير المشروع: تفاقم وجود أعداد كبيرة من الأجانب دون رقابة قانونية أو تنظيم، ما يشكل خطرًا أمنيًا يستدعي المعالجة العاجلة.

انتشار العشوائيات وفوضى الإيجارات: تفاقم السكن العشوائي وطريقة الإيجارات وانتشار المهن الهامشية دون رقابة، تعوق جهود الأمن وتوفر غطاءً للعناصر الإجرامية.

3. المهددات

فتح السجون وهروب المساجين: خلال احتلال الدعم السريع للعاصمة، تم فتح السجون وهرب آلاف السجناء، بينهم متهمون في جرائم خطيرة، ما يشكل خطرًا أمنيًا داهمًا.

التضخم الاقتصادي: توقف الإنتاج وتراجع الصادرات أدى إلى أزمة اقتصادية خانقة، خلقت بيئة خصبة للجريمة والتمرد والفوضى.

غياب الدعم الخارجي الكافي: رغم وجود بعض المبادرات الدولية، لا يزال الدعم الأمني والاقتصادي دون المطلوب لمعالجة آثار الحرب.

استمرار الحرب في الولايات الأخرى: يظل استمرار النزاع في دارفور وكردفان وغيرهما مصدر تهديد مباشر لأمن العاصمة مستقبلاً.

4. الفرص المتاحة

إمكانية تحويل التهديدات إلى فرص: من خلال تبني سياسات إعادة دمج وتأهيل الهاربين من العدالة بعد تسوية وضعهم، وسكان العشوائيات ضمن أطر قانونية ومجتمعية.

المبادرات الدولية والإقليمية: يمكن الاستفادة من المبادرات السياسية والإنسانية المطروحة من الدول والمنظمات الإقليمية والدولية.

روح التماسك الوطني: أظهرت الأزمة تضامنًا شعبيًا لافتًا يمكن استثماره في تعزيز شبكات الأمن المجتمعي والدعم الأهلي.

ثانيًا: خارطة طريق لاستعادة الأمن والاستقرار

1. إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية

وضع خطة عاجلة لإعادة هيكلة الأجهزة النظامية، وتطهيرها من العناصر غير المؤهلة، مع إحلال تدريجي قائم على المهنية والكفاءة، ودراسة مدى إمكانية الاستفادة من الخبرات السابقة.

البدء الفوري في ترحيل مقار القوات المسلحة والثكنات العسكرية إلى خارج النطاق العمراني للعاصمة، لما ثبت من أثر وجودها المباشر داخل العاصمة، في مضاعفة المخاطر الأمنية على المدنيين، وتسببها في موجات نزوح واسعة وتدمير كبير للبنية السكنية والخدمية.

ينبغي أن تُعاد هندسة العاصمة بما يضمن خلوّها من أي مواقع عسكرية دائمة، مع الإبقاء على قيادات رمزية في المواقع الحاكمة فقط، بحيث تُطوّق العاصمة من الخارج بدلاً من تكديس القوة داخلها، بما يشكل حزامًا أمنيًا يحميها بدلًا من تعريضها للخطر.

ينبغي التفكير في تخصيص مواقع حيوية لحماية العاصمة مثل المقابر والمداخل الاستراتيجية، بحيث تُمثل نقاط إنذار مبكر وتوازن أمني إضافي، دون أن تُثقل كاهل المناطق السكنية بوجود عسكري دائم.

حصر القوات المنتشرة وتحديد مهامها بوضوح منعًا للتضارب والتفلت الأمني، وجمعها في معسكرات منظمة خارج المدن.

تشكيل أطواف أمنية مشتركة لبسط هيبة الدولة وحسم كافة مظاهر التفلت بفرض العقوبات الصارمة على المتجاوزين.

2. ضبط الوجود الأجنبي وتنظيم السكن

سن قوانين صارمة لتنظيم الإقامة، وإبعاد المخالفين، مع ضبط الإيجارات وتسجيل قاطني الشقق المفروشة.

تنفيذ حملات منظمة لإزالة العشوائيات مع إيجاد حلول بديلة لقاطنيها، ومحاربة التشوهات السكنية داخل الأحياء.

تنظيم ممارسة جميع المهن ومحاربة الهامشية منها وفرض رقابة صارمة عليها.

3. إعادة إعمار البنية التحتية

تنفيذ خطة متكاملة لإعادة تأهيل المدارس والمستشفيات والمؤسسات الحكومية والمرافق الخدمية مثل الكهرباء والمياه وصيانة وإنارة الطرق.

توسيع شبكة كاميرات المراقبة للشرطة في المناطق الحيوية لتسهيل المتابعة والرصد.

4. استعادة هيبة الدولة

فرض هيبة الدولة من خلال تطبيق صارم للقانون على الجميع دون استثناء.

إعادة تفعيل الجهاز القضائي والنيابي لأداء مهامه كضامن أساسي للأمن والاستقرار.

5. التعاون مع المجتمع الدولي

فتح قنوات تنسيق مع المنظمات الدولية، لتوفير دعم لوجستي وتقني في مجال الأمن وإعادة الإعمار.

إدماج الأمن ضمن أي حل سياسي شامل للبلاد، بوصفه أحد أركان الاستقرار المستدام.

خاتمة

إن استعادة الأمن في الخرطوم لا يمكن أن تتم عبر الحلول الأمنية وحدها، بل تتطلب رؤية شاملة تعالج جذور الأزمة وتستثمر ما تبقى من مكامن القوة، وتواجه التحديات بإرادة وطنية صادقة، وإدارة رشيدة تضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار. عندها فقط، يمكننا الحديث عن بداية تعافٍ حقيقي، يمهد الطريق لبناء السلام.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *