علي النعيم

علي النعيم (أبوهالة)

كاتب صحفي

• شهد العام 1926م بداية التشغيل التجريبي لشيخ السدود والخزانات بالسودان (خزان سنار)، لتوفير الري التكميلي لمشروع الجزيرة، الشيء الذي استوجب وجود معظم إدارات وزارة الري والموارد المائية بمدينة ودمدني، حتى اكتمل كل الوجود الإداري بالقرار التاريخي للرئيس الأسبق المشير/ جعفر محمد نميري بتحويل مكتب وكيل الوزارة لود مدني.

  في العام 1948م أصدرت وزارة الري قراراً بإنشاء المؤسسة الفرعية للحفريات، لتقوم بنظافة وتطهير الترع والقنوات بمشروع الجزيرة، وأنشئت أول ورشة مختصة بصيانة ومتابعة 

آلات الحفر والتطهير (الكراكات) بمنطقة مساعد شمال غرب ودمدني العاصمة عند الكيلو (114)، وهي المسافة من خزان سنار وحتى منطقة مساعد. ومن هنا جاءت التسمية (114)، حيث صارت اسماً ووشماً ورسماً لأعرق مؤسسة وطنية سودانية قبيل انتقالها لموقعها الحالي بالعاصمة ودمدني. 

بمثل ما سعت وزارة الري في توفير كل مقومات النجاح للمؤسسة الفرعية من (آليات، وورش صيانة، ومساكن ومكاتب وعناصر بشرية، بدءاً من المهندسين والفنيين والموظفين في القطاعات المختلفة)، كانت المؤسسة في حسن الظن بها حينما رمت بها وزارة الري في أصعب مهمة عملية، ألا وهي توسعة مشروع الجزيرة بإضافة امتداد المناقل والحرقة ونور الدين ومنطقة ري عبدالماجد بوسط الجزيرة، حيث أنجزت المهمة بأحسن ما يكون هندسياً وإدارياً ومالياً. ثم جاءت المهام الأخرى التي دخلت فيها المؤسسة في تحدٍّ مع نفسها، فكان مشروع سكر الجنيد، ومشروع الرهد الزراعي، ومشروعات السوكي والنيل الأزرق، وسكر كنانة وسكر عسلاية. وهناك تحولت المؤسسة لتنفيذ مهام إضافية، كمباني تلك المشروعات من مكاتب ومساكن، والكباري والطرق الترابية.

أسهمت المؤسسة الفرعية للحفريات في الحفاظ على أهم هبة ربانية وجغرافية وتضاريسية، ألا وهي نظام الري الانسيابي، حيث حافظت على تلك الميزة لمشروع الجزيرة من خلال مهندسين وعمال مهرة، أتقنوا التعامل مع آليات نظافة وتطهير القنوات والترع، حتى تسير مياه خزان سنار على طول (300) كيلو متر شمالاً دون الحاجة لطلمبات أو عوائق (كما يحدث الآن). 

بين ليلة وضحاها، وبقرار سياسي منفعي فاسد، دكت كل تلك الآمال، وحطمت كل تلك الأحلام، وتم قيام مؤسسة (موازية) لتقوم مقام تلك المؤسسة العريقة، دون خبرة أو دراسة أو مشورة. مؤسسة قارب عمرها الستين عاماً من الخبرة والدراية والممارسة، تستبدل بآليات حفر (كراكات) يديرها تجار وسائقون دون خبرة أو مشورة هندسية، فأسهموا في ضياع الخارطة الكنتورية للري الانسيابي، حتى صارت القنوات أقل من مستوى الأرض والغيط والحواشات، وهي المعضلة التي كانت كالقشة التي قصمت مشروع الجزيرة وأوردته موارد الضياع والعطش والإهمال. كانت المؤسسة الفرعية تضم في قوامها البشري ما يفوق الخمسة آلاف وظيفة من مهندسين وفنيين وسواقين وزياتين وبراطين وعمال مهرة، في الحدادة والمباني واللحام والسباكة والكهرباء والميكانيكا وأعمال الورش والصيانة العامة، كان لها أكثر من مئة منطقة برئاساتها ومكاتبها الفرعية، كانت تمارس الضبط المالي، وكانت تخضع للرقابة والمحاسبة والتفتيش من أعلى الجهات الرقابية في الدولة، كان نظام التطهير والحفر يتم بصورة وضبط هندسي في كل متر مكعب من طمي الترع والقنوات، قبل أن يأتي على ذلك نظام الحفر الضار والتقديرات الكاذبة والمضللة بغية نيل المال العام. كانت ورش 114 تدرب وتخرج طلبة التدريب المهني والعمال المهرة، قبل أن تباع (بالكيلو) كخردة، وتفكك لأغراض خاصة وشخصية. 

يكفي تلك المؤسسة العريقة فخراً أنها كانت مورد رزق لآبائنا وأعمامنا وإخواننا، ويكفيها عزاً أن كانت لنا رزقاً تعلمنا من ريعه، وتعالجنا فيه، وتدرجنا فيه لسبل الحياة العامة الأخرى، يكفيها فخراً بأن فتحت بيوتاً، وعمرت الأرض، وسقت الزرع، ودرّت الضرع. إن من أوجب واجبات فترة البناء والتعمير المقبلة، هي فتح ملف المؤسسة الفرعية للحفريات، فللمؤسسة عقارات وأراضٍ وورش يمكن أن تقيم مالياً لتكون ضماناً لأي تمويل مالي يعيدها من جديد، فتدور الورش التي كانت تصين وتعمر الآليات وتصنع قطع غيارها محلياً، وتعود آليات الحفر والتطهير لكل المشروعات بنظام هندسي خبرته ومارسته تلك المؤسسة العريقة. 

وأقول للاقتصاديين الذين ذبحوا المؤسسة بسكين الخصخصة، بأنه ولو لم تفعل المؤسسة خيراً أو ربحاً سوى تشغيل ذلك العدد من السودانيين لكفاها نجاحاً وفلاحاً. لن أقول حاسبوا من فعل ودمر تلك الفكرة العظيمة والمؤسسة الكبيرة، وشرد العاملين، وأكل حقوقهم، فتلك خطوة ينتظرها أولئك المجرمون، لأنها ستقتل فكرة العودة لذلك العهد النضير، وستتحول إلى لجان تنبثق منها لجان وتتمحور منها لجان وتولد فيها لجان، وتضيع فكرة عودة المؤسسة الفرعية للحفريات، فقط دعوهم لعدالة السماء ورب عادل وعليم.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *