الكتابة في مواجهة جبال التشوُّش

406
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• أجلس أمام الصفحة الفارغة، كما أفعل كل صباح. ضوء النهار الباهت يتسلل من النافذة غير النظيفة، يرسم مربعات شاحبة على طاولتي الخشبية المحفورة بآثار قلق الأمس. فنجان القهوة الأسود يبرد ببطء، لكنني لا أتناوله بعد. أراقب كيف يذوب لون الفجر في زجاج النافذة المتلطخ بالهموم، بينما ترفض الكلمات أن تأتي اليوم.
ولمرات عديدة، اقترحت على هيئة التحرير إعفائي من الكتابة الأسبوعية. فهذا الموعد الثابت يشبه سكيناً مسلطاً على رقبتي، يذكرني كل أسبوع بمدى خيانتي للكلمات. الكتابة الحقيقية لا تُنتزع انتزاعاً كالأسنان الفاسدة، بل يجب أن تتدفق كالسيل الجبلي بعد ذوبان الثلوج. أما أنا، فأجد نفسي كل أسبوع كالكذاب المحترف الذي يحاول إقناع القراء – وإقناع نفسه أولاً – بأنه ما زال يعرف كيف يصطاد الحقيقة من بحر الأكاذيب اليومية.
أعرف هذا الشعور جيداً. ذلك الثقل الذي يستقر في صدري، كأنــّما هناك حجر رحى يضغط على أضلعي. سبق أن نشرت الكثير، لكن في كل صباح يعود الفشل ليستقبلني عند عتبة الكتابة، طازجاً كجرح لم يندمل.
أحصي الأوراق الممزقة في سلة مهملات جهاز الكمبيوتر. سبع محاولات فاشلة لبداية المقال. في الرابعة صباحاً، أحرقت الفقرة الأولى بعد أن أعدت كتابتها ثلاث مرات. القهوة في الفنجان فقدت حرارتها، والزعج يطرأ مراراً من حولي. على حافة الطاولة، بقعة من الحبر تشكّل جزيرة صغيرة، حدودها متعرجة كخريطة لأرض لا أعرفها.
أتذكر الأيام التي أعود فيها إلى أريكتي خالي الوفاض بعد ساعات من الجلوس على مكتبي الصغير، أستجدي فيها كلماتي بالمثول أمام الفراغ.. والأوراق البيضاء تتحول إلى أعداء صامتين. أخدش الكلمات ثم أشطبها، أقفقفها ثم أتركها، حتى يصبح الورق أشبه بجثة بعد معركة. في بعض الليالي، أرمي كل شيء وأنام على الأريكة، فقط لأستيقظ عند الفجر وأبدأ من جديد، كأنّ شيئاً لم يكن.
«اكتب جملة واحدة صادقة»… أردد هذا لنفسي. لكن حتى هذه تخدعني أحياناً. الجملة التي بدت صادقة في الليل، تتحول إلى كذبة بائسة في ضوء النهار. كم مرة قرأت ما كتبته بالأمس فوجدته تافهاً؟ كم مرة ظننت أنني وصلت إلى الحقيقة، فقط لأكتشف مع الصباح أنني كنت أخادع نفسي؟
لكني أعرف أن هذا كله جزء من اللعبة. الفشل ليس عدو الكتابة، بل هو رفيقها الأبدي. كل جملة جيدة تقف على جبل من الجمل الميتة. كل قصة حقيقية تُبنى على أنقاض مئات المحاولات الفاشلة.
في نهاية المطاف، ليس هناك سوى حقيقتي البسيطة.. يجب أن أفشل كل يوم من جديد، حتى يأتي اليوم الذي لا أفشل فيه. وعندها، سأعرف أنّ المعركة الحقيقية لم تنتهِ، لأن الغد سيجلب فشلاً جديداً، وصفحة فارغة جديدة، وفرصة جديدة لمواجهة نفسي عارية كما لم تكن من قبل.
ولكني أعود.. أعود دائماً.. لأنني لا أملك خياراً آخر. الكتابة هي حب عاصف لا يُنسى. كلما ظننت أنني تخلصت منها، وجدت نفسي عائداً إلى الصفحة البيضاء كالهارب الذي يعود إلى سجنه طواعية. لأنّ الكتابة ليست مهنة نختارها، بل هي قدر نعيشه. فإذا كانت الكلمات تخوننا أحياناً، فإنَّ الصمت يقتلنا كل يوم. وإذا كان الفشل رفيقنا الأبدي، فإنَّ الاستسلام هو الخيانة بعينها.
عندما لا تريد الكتابة. ستكتشف أن هذه هي اللعنة الوحيدة التي لن تطلب منها الشفاء أبداً.
الآن، أغلق الجهاز… أشرب آخر رشفة من القهوة التي أصابها البرود.. في الصباح، سأعود إلى الطاولة نفسها، إلى المعركة نفسها. ليس لأني أريد ذلك، بل لأني يجب أن أفعل. لأنني لا أكتب عندما أعرف ماذا أقول، بل أكتب بالضبط لأنني لا أعرف.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *