الكاتب والدكتور محمد عثمان غاندى: من خلال مشروع «عكازة الذكرى».. أردت أن أحتفظ بما تبقى من سنار القديمة

258
صورة أولى للحوار

يمكن أن يكون للأخلاقيات المتمثلة في قيم الحرب
تأثير طويل الأمد إذا لم يتم التعامل معها بحذر

Picture of حوار : طارق عبدالله علي

حوار : طارق عبدالله علي

«محمد عثمان حامد بشير» المُلقب بـ «غاندي»، من مواليد «سنار التقاطع» في نوفمبر 1964م، عمل بعدة منظمات منها منظمة أمريكية بإسم GT Global التي توقفت بعد إستلام ترامب للحكم وعمل أيضاً كمدير وطني في الشبكة السودانية للسكان وهو مشروع مشترك مع صندوق الأمم المتحدة للسكان UNFPA الذي توقف بظروف الحرب، يعمل الآن إستشاري بمنظمة العون الإسلامي البريطاني. 

في هذا الحوار ندلف بين «محمد عثمان غاندى» الكاتب والإستشاري ونطوِف في تفاصيل هذه القيمة الثرة والمؤثرة بأسهامها الفكري، للمبدع «غانِدي» كثير من الأشعار ومجموعة رائعة من الأعمال الأدبية منها العمود الشهير: «عُكازَة الذكرى» الذي تناول ذكريات ومآثر سنار التقاطع وسير شخصيات عتيقة فيها، قدم العديد والعديد من الأدلة التدريبية للمنظمات في مجالات متعددة وكانت آخر إسهاماته المطبوعة هي دليل تدريبي حول : «بناء قدرات أعضاء المبادرات المجتمعية» الذي أعده رفقة «أسامة حبيب» لصالح المعونة الأمريكية ومنظمة شموس، فإلى تفاصيل الحوار  : 

 

• ما بين الكتابة والعمل بالمنظمة، هل هناك وجه شبه بينهما؟ 

– الكتابة والعمل في المنظمات الإنسانية.. وجهان لعملة واحدة، بدأ شغفي بالكتابة منذ الطفولة، حيث كنت أكتب وأتوقف، ثم أعود إليها كلما ناداني الحرف. ومع مرور الزمن، وجدت أن عملي في المنظمات الإنسانية منحني نافذة واسعة على التجربة الإنسانية، حيث أتاح لي التجوال في ربوع السودان والتعرف على ثقافاته المتعددة. هذا التنوع العميق في الإنسان والمكان صقل رؤيتي وأثرى تجربتي الأدبية.

• هل كان التنقل مع المنظمة في بقاع السودان مؤثراً أو مجددا لإحساس الكتابة لديك؟ 

– الكتابة والعمل في المنظمات الإنسانية يشتركان في جوهر واحد؛ فالكتابة تتيح لك السفر عبر القلم إلى أعماق الإنسان والمكان، بينما يتيح لك العمل الميداني الاقتراب من هموم الناس واحتياجاتهم، فتراهم عن قرب، وتلمس واقعهم، وتسمع أصواتهم بوضوح. 

• أكثر المحطات التي مررت بها وتوقفت عندها أي كان لها أثراً في نفسك؟ 

– من أكثر المحطات التي تركت أثراً عميقاً في نفسي كانت دارفور، وما زلت أذكر تلك اللحظة التي وقفت فيها على عتبات وادي أزوم في زالنجي، حينما لاحت في ذهني قصيدة الأديب الكبير عالم عباس:

“أزوم يا أزوم

يا شاطئًا رسى عليه زورق الغيوم…

تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال

على الحراز، والهشاب، والخروب، والسيّال…

كأنما الندى عليه باقة من النجوم….”

أما كردفان، فقد كانت محطة أخرى زاخرة بالجمال والتأثير، خاصة حين وجدت نفسي في الدلنج تحت ظلال شجرة التبلدية الشهيرة، تلك التي ألهمت الشاعر الكبير جعفر محمد عثمان فكتب عنها قصيدته التي درسناها في المرحلة الابتدائية:

“ذِكرى وفاءٍ وودِّ عندي لبنتِ التبلدي

في كلّ خفقةِ قلبٍ وكلّ زفرةِ وجدي

فيا ابنةَ الروضِ ماذا جرى لمغناكِ بعدي؟

ما زلتِ وحدَكِ إلفي يا ليتني لكِ وحدي”

جعفر محمد عثمان، ابن وادي حلفا، كان معلمًا تنقّل بين ربوع السودان، فالتقى بالتبلدية في الدلنج، وحين انتقل إلى بخت الرضا، هاجت ذكرياته فكتب قصيدته الخالدة، قائلًا:

“يا غادةَ الأيكِ عامٌ يمرّ من بعد عامْ

ولا تزالــين ذكـرى بقلــــبي المستـــــهامْ

يا رُبا السحرِ حيّا ثراكِ هامي الغمامْ

ويا ربيـــــع شبـــــابي عليكِ ألفُ سلامْ”

الترحال بحكم العمل يترك في القلب بصمات لا تُمحى، ويملأ الذاكرة بفيض من المشاهد والقصص التي لا تجد طريقها إلى النسيان. وما على الكاتب إلا أن يمسك بالقلم، ليسجّل تلك اللحظات، ويحولها إلى كلمات نابضة بالحياة.

• في جانب الكتابة والتوثيق.. حدثنا عن سلسلة مقالات «عُكازَة الذكرى» التي استصحبت تفاصيل ومآثر سنار التقاطع؟

– “عكازة الذكرى”… قفزة من الشفاهة إلى التوثيق، “عكازة الذكرى” عنوان استعرته من الشاعر بلند الحيدري، الذي وردت هذه العبارة في قصيدته صدى خريف:

“قلبٌ توكأ على عكازة الذكرى

وراح يبحث في أنقاضِ ما مرّا”

من خلال هذا العنوان، كنت أسعى إلى تجاوز ثقافة الشفاهة السائدة في مجتمعنا، والعبور إلى عالم الكتابة والتوثيق، تحديدًا فيما يتعلق ببلدتي سنار التقاطع، التي بدأت ملامحها القديمة تتلاشى وتذوب مع الزمن. أردت أن أحتفظ بما تبقى من سنار القديمة، وأن أقدمها للأجيال القادمة في صورة حية توثق الحياة، والشخصيات، وزخم المكان والزمان، التوثيق ليس مجرد حفظ للماضي، بل هو جسر يصلنا به، ويمنح الأجيال القادمة نافذة تطل منها على إرثها الثقافي والاجتماعي

• هل استندت على مصادر في مشروع «عكازة الذكرى»؟

– إستندت في هذا المشروع إلى مصادر متعددة، وجمعت معلومات غنية من مختلف مجالات الحياة، لتكوين صورة متكاملة عن سنار كما كانت. ورغم أنني توقفت عن الكتابة في هذا المشروع لفترة، فإنني عازم على جمعه وطباعته قريبًا، خاصة أن نشره على الفيسبوك أضاف بعدًا جديدًا، إذ أسهم القراء في تصحيح بعض التفاصيل، ومدّي بمعلومات كانت غائبة عني.

• قدمت حزمة من الأدلة الوطنية التي تساهم في البناء..حدثنا عن هذا المجهود؟

– أنا من الذين يؤمنون بأن الاستثمار في الإنسان هو الرهان الرابح، وهو الحل الحقيقي لأي مجتمع يسعى للنهوض. لذلك، انصبّ جلّ جهدي خلال السنوات الماضية على إعداد الأدلة التدريبية الوطنية، التي تراعي القيم والمعرفة المحلية، لضمان أن تكون ملائمة وفعالة في سياقنا السوداني.

• متى بدأت في هذا المجال؟

– كانت بداياتي في هذا المجال منذ فترة طويلة، من خلال عملي في برامج الأمم المتحدة الموجهة للشباب، وهو ما أتاح لي فرصة التعمق في أساليب التدريب وإعداد المواد التعليمية. بحمد الله، تمكنت حتى الآن من إعداد ستة أدلة تدريبية للمنظمات في مجالات متعددة، وكان آخرها “دليل العمل مع المبادرات المجتمعية المحلية”، الذي فرضته الظروف الراهنة، والحاجة الماسة لتزويد أعضاء هذه المبادرات بالمهارات والمعرفة اللازمة للتعامل مع مجتمعاتنا المتنوعة والحساسة. 

• كيف يتحصل المبادرون في مجتمعنا على هذه الأعداد التدريبية المهمة؟ هل هي مودعة على مكتبة إلكترونية؟

– تم إعداد معظم الأدلة التدريبية لخدمة برامج ومنظمات محددة، وطُبع بعضها، مثل دليل تدريب الأقران الشباب حول الصحة الإنجابية الذي طبعته اليونيسف ووزعته على المنظمات العاملة في المجال، ودليل تدريب قابلات القرى على خدمات تنظيم الأسرة لدى إدارة الصحة الإنجابية بوزارة الصحة الاتحادية، ودليل القيادة بالشباب الذي أُعد لصالح وزارة الشباب الاتحادية. هذه الأدلة غير متاحة إلكترونيًا، لكن يمكن طلبها من الجهات المعنية، أما الأدلة المتوفرة رقميًا فتشمل الذي تم إعداده حديثا ودليلًا آخر عن المتابعة والتقييم والمحاسبية والتعلم للمنظمات الشبابية، ويمكنني مشاركتهما عند الطلب.

• لدى سؤال متعلق بهذه الظروف الراهنة، وهو عن أخطار تأثر اﻟﻘﻴﻢ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﺳﺦ ﻫﻮﻳﺔ اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ وﺗﺤﺪد ﺳﻠﻮﻛﻴﺎﺗﻪ إذ برزت سلوكيات جديدة مستوحاة من ثقافة الحرب والنزاع، ما هو الممكن فعله من منظمات المجتمع المدني ﻹﻋﺎدة ﺑﻨﺎء وﺗﻌﺰﻳﺰ اﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ؟

– تلعب منظمات المجتمع المدني دوراً محورياً في تعزيز هذه القيم من خلال التوعية والتثقيف عبر ورش العمل والندوات التي تروج للتعايش السلمي، التسامح، واحترام الآخر، إضافة إلى برامج تثقيفية تحفّز الحلول السلمية بدلاً من الاستجابات العاطفية للعنف، يمكنها أيضاً إطلاق منصات حوارية تجمع مختلف فئات المجتمع لمناقشة القيم الأخلاقية وتأثيرات النزاع على الهوية، ودعم الأنشطة الثقافية والفنية التي تعكس القيم السودانية الأصيلة وتناهض العنف وخطاب الكراهية، من الأدوار المهمة أيضاً إعادة بناء الثقة الاجتماعية عبر مشاريع تُعزز التماسك المجتمعي، إلى جانب الدعم النفسي والمجتمعي للمتضررين من الحرب، وهو دور تساهم فيه المنظمات بالفعل.

• هل تعتقد أن ازمة الاخلاقيات المتمثلة في منظومة قيم الحرب لها ما بعدها؟ 

– نعم ، يمكن أن يكون لهذه الأزمة تأثير طويل الأمد إذا لم يتم التعامل معها بحذر. إن استمرار هذه القيم يمكن أن يعزز الانقسام الاجتماعي ويضعف جهود بناء المجتمع السلمي.

• كيف يتم تلافي آثارها؟

– لتلافي آثارها، من الضروري أن تكون هناك استراتيجيات شاملة تتضمن التعليم، والتنمية الاجتماعية، والمشاركة المجتمعية، والدعم النفسي لتحقيق تعافي حقيقي من آثار النزاع على القيم الثقافية والأخلاقية.

• أخيراً.. هل هنالك أعمال قادمة على الصعيد الشخصي؟ 

– أما على الصعيد الشخصي، فأطمح إلى تطوير أدواتي في الكتابة، لا سيما كتابة الشعر، والاجتهاد أكثر في تنقيح “عكازة الذكرى” حتى ترى النور قريباً، بعد أن أضيف إليها كل ما يليق بها من عناية وتدقيق.

 

شارك الحوار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *