الفن في ميزان المحاسبة: عدالة حقيقية أم تصفية حسابات؟
Admin 22 فبراير، 2025 30

كتب - راني السماني
تفكيك لخطاب عبد الجبار عبد الله ( ( ٣ – ٢
«حارس النوايا»
في بلدة صغيرة، عاش رجل يُدعى عبد الغفار، كان يرى نفسه مختلفاً عن الجميع.
لم يكن قارئاً للعقول، لكنه كان مقتنعاً بأنه يفهم نوايا الناس قبل أن يعبّروا عنها.
كان يسير في الطرقات بعينين متفحّصتين، يراقب الجميع، يحكم على مواقفهم، ويفترض أنه الوحيد الذي يرى حقيقتهم.
في أحد الأيام، اجتمع أهل البلدة لمناقشة رجل أسمه زرياب ارتكب خطأً في الماضي.
وقف عبد الغفار وسط الجمع وقال بصوت عالٍ:
«يجب أن يُحاسب! لا مجال للصفح عنه، فقد كان جزءاً من الخطأ!»
«لقد أخطأت!» صرخ زرياب، «لكنني حاولت، والله حاولت!»
لكن صوته ضاع وسط الضجيج، كلما اقترب خطوة نحو التصحيح، تصاعدت أصوات اللوم من كل اتجاه.
وفي مقدمتهم، كان عبد الغفار يرفع صوته أعلى من الجميع:
«لا جدوى من المحاولة! من أخطأ مرة سيخطئ دوماً!»
«لا يهم كم تحاول، لقد تغنيت لهم، لقد سقطت!»
«لا يهم إن اعتذرت أمام الشعب أجمع، لا يهم!»
«لا مغفرة لك!»
لكن زرياب لم يستسلم، كان ينهض في كل مرة، يتمسك بحقه في المحاولة، في التصحيح، في التغيير.
وكان عبد الغفار في كل مرة يحاول أن يدفعه إلى ذات الدائرة، يسحبه إلى الخلف كأنما يريد إبقاءه حيث سقط، وكأن توبته مجرد وهم، وكأن الطريق إلى الغفران ليس متاحاً له.
كرر عبد الغفار مرة أخرى وقال بصوتٍ جهور:
«يجب أن يُحاسب! لا يمكن أن نغفر له، لا يمكن أبداً!» .. سأله شيخ القرية بهدوء:
«وكيف ترى أن تكون المحاسبة؟»
تردد عبد الغفار للحظة، لكنه قال بثقة:
«لا أدري، لكن لا يجب أن يُترك دون عقاب!»
كل محاولة إصلاح لزرياب كانت تُدفن تحت طبقات جديدة من اللوم، كأنه يسير في رمال متحركة، كلما تحرك غرق أكثر.
كلما صرخ، تردد صدى صوته ليعود إليه مضاعفاً، محملاً بالذنب.
وفي كل مرة يُقتل في أعينهم، ينهض ليُقتل من جديد.
مرّت الأيام، وزرياب بدأ يعمل بجدّ لإصلاح ما كان.
لكن عبد الغفار لم يقتنع، كان يراقبه من بعيد، ويهزّ رأسه قائلاً لمن حوله:
«لا تنخدعوا، هو فقط يساير الأحداث! لا يمكن أن يكون صادقاً!»
وحين سأله أحدهم:
«وكيف عرفت نواياه؟»
ابتسم عبد الغفار ساخراً:
«لأنني أرى ما لا ترونه.!»
لم يجبه أحد، لكنهم تبادلوا نظرات صامتة. وفي إحدى الليالي، بينما كان عبد الغفار يحدّق في بحيرة ساكنة، رأى انعكاسه في الماء، لكن الوجه لم يكن وجهه، بل وجه زرياب الذي حكم عليه دون أن يعرف حقيقته.
حاول أن يبعد نظره، لكن الصوت انبعث من أعماقه:
«هل ترى النوايا حقاً، أم ترى فقط ما يريحك تصديقه؟»
في تلك اللحظة، لم يكن لديه إجابة.
فقد رحل زرياب، لكنه ترك خلفه ظلاً لم يستطع عبد الغفار مواجهته في الماء.
غادر زرياب هذه الفانية، ليترك لعبد الغفار متسعاً ينعم فيه بانتصاره الذاتي.
لكن ما انعكس على صفحة الماء لم تكن صورة تجسد انتصاراً، بل ظلّ رجلٍ أضاع عبد الغفار فرصة رؤية حقيقته، لأنه لم يرَ سوى ما أراد تصديقه.

وما بين قصة عبد الغفار ومقال عبد الجبار عبد الله (ظاهرة غسل البشر وإعادة تدويرهم)، تساءل دوستويفسكي في رواية «الأبله» متعجبا :
«كيف احتملت فكرة أنك وضعت ثغرة مؤلمة في صدر أحدهم سترافقه طوال حياته، ومضيت هكذا دون أن تكترث لشيء؟»
أولاً، ازدواجية موقف الكاتب من الفنانين
الكاتب ينتقد يوسف الموصلي وسيف الجامعة بشدة بسبب مشاركتهما في «أوبريت جيشنا»، وله الحق كما لنا في ذلك، لكنه في الوقت نفسه يستهجن مشاركتهما في بيان يدعو إلى إيقاف الحرب والمساءلة عن الانتهاكات.
هذا التناقض يطرح تساؤلاً:
هل المشكلة مع مشاركتهم في أي عمل كان، أم مع تحول مواقفهم دون مساءلة؟
أم أن الكاتب لا يقبل فكرة المراجعة أصلاً، ويعتبر كل تراجع مجرد محاولة للالتفاف، حتى لو كان قائماً على قناعة حقيقية؟
ثانياً، بين الخطأ العابر والتواطؤ المستمر: ضرورة التمييز في المحاسبة وعدم الخلط.
المقال يضع يوسف الموصلي وسيف الجامعة في كفة واحدة، وهو خلطٌ غير دقيق يتجاهل الفارق الجوهري بين خطأ عابر ومحاولة متكررة.
فالموصلي أخطأ مرة واحدة وسعى لتصحيح موقفه بطرق متعددة، بينما اتخذ سيف الجامعة عدة مواقف متكررة في الاتجاه ذاته، حتى وإن تراجع في النهاية.
هذا الخلط بين الحالتين دون مراعاة الفارق بين الخطأ العابر والتواطؤ المتعدد يجعل النقد أقل إنصافاً، ويطمس الفرق بين من تراجع مبكراً وسعى للإصلاح، ومن استمر طويلاً في نفس المسار قبل أن يعود أدراجه. فليس كل من دعم النظام يُحاسب بنفس الطريقة، لأن هناك فارقاً جوهرياً بين:
فليس كل من دعم النظام يُحاسب بنفس الطريقة، لأن هناك فارقاً جوهرياً بين:
1- فنان أخطأ ثم تراجع بوضوح: يوسف الموصلي نموذجاً.
شارك يوسف الموصلي في عمل واحد تحت ظرف معين، لكنه سرعان ما أظهر موقفاً واضحاً داعماً للثورة، وأدان النظام وانتهاكاته، مقدماً أعمالاً فنية وطنية تعكس التزامه بمبادئ الحرية والعدالة.
ومن أبرز أعماله التي جسدت هذا التوجه:
«كتلت الشباب»
(كلمات، ألحان، وتوزيع يوسف الموصلي)
«ضحى الشهيد بالروح»
(كلمات، ألحان، وتوزيع يوسف الموصلي)
«قصة وطن»
(كلمات: مدني النخلي، ألحان وتوزيع الموصلي)
«يا الأمنجي التندستا»
(كلمات: تماضر الطاهر إبراهيم، ألحان وتوزيع الموصلي)
«حرية سلام وعدالة»
(شعر: د. عز الدين هلالي، ألحان وتوزيع الموصلي)
«انقلاب»
التي كُتبت قبل 10 أيام فقط من انقلاب البرهان وحميدتي في 15 أكتوبر 2021.
(كلمات، ألحان، وتوزيع يوسف الموصلي)
كما أن الموصلي لم يكن طارئاً على الأغنية الثورية، فقدّم أعمالاً داعمة للثورة منذ وقت طويل، منها:
«دعوة للثورة»
(كلمات: عبد القادر الكتيابي)
«يا شارع الحلة ولّع عليك الله»
(كلمات: محمد عليش)، التي قُدّمت في احتفالات (الحزب الشيوعي السوداني) بثورة ديسمبر المجيدة, بميدان الساحة الشعبية، بالديوم.
هذا المسار الواضح في أعماله يعكس موقفاً ثابتاً، ويؤكد أنه لم يتورط في تكرار أخطائه، بل اختار جبهة الثورة والانحياز للشعب.
2- فنان لم يعترف بخطئه بوضوح: سيف الجامعة نموذجاً.
على النقيض، فإن سيف الجامعة لم يعترف بوضوح بمشاركته في أعمال تدعم السلطة العسكرية، ولم يقدم اعتذاراً صريحاً للشعب.
رغم أنه أعلن موقف «لا للحرب» وأدان النظام الحاكم في السودان بقيادة البرهان وما تبعه من كيزان، عبر فعالية بثّت عبر الزوم بمنبر «فلنغني للسلام» بتاريخ 5 أكتوبر 2024، وهو موقف محترم يُحسب له، إلا أنه في أحد النقاشات بقروب «المبدعون السودانيون» على واتساب، رفض الاعتذار للشعب السوداني عن أدائه لأغنية «جيشنا يا جيش الهنا»، التي قدّمها في مدينة عطبرة، أول أيام للحرب، مما يثير التساؤلات حول مدى إدراكه لمسؤوليته الأخلاقية تجاه الشعب، خاصةً أن هذه الأغنية لم تكن مجرد عمل فني عابر، بل كانت جزءاً من الدعاية العسكرية التي ساهمت في تضليل الرأي العام، وترسيخ صورة زائفة عن الجيش، حتى بعد اندلاع الحرب اللعينة، التي كشفت حقيقة تلك المؤسسة وأدوارها في المشهد السياسي والعسكري.
قد نختلف مع أمثال سيف، لكن يجمعنا بهم الحد الأدنى من الاتفاق، طالما أن مواقفهم الراهنة تنسجم مع القيم الأساسية للثورة، حتى وإن ظلت هناك أسئلة معلّقة حول مواقفهم السابقة.

3- فنان متحالف مع النظام القمعي:
جمال فرفور وندى القلعة نموذجاً.
في هذه الفئة، نتطرق إلي الفنانين الذين اختاروا بوعي كامل أن يكونوا أدوات للنظام، ليس من خلال عمل واحد أو خطأ عابر، بل عبر مسيرة طويلة من الغناء الدعائي والترويج للسلطة القمعية.
جمال فرفور وندى القلعة مثالان واضحان لهذا النهج، حيث سخّرا فنهما لخدمة النظام المستبد، سواء عبر الأغاني الحماسية التي تضفي الشرعية على الطغاة، أو من خلال الترويج لرموز السلطة القمعية في مختلف المناسبات.
ولم يقتصر الأمر على مجرد الغناء، بل تجاوز ذلك إلى إعلانهم الصريح بانتمائهم إلى جهاز الأمن القمعي، في تجسيد واضح لعلاقة عضوية بين الفن والأجهزة الأمنية ، حيث لم يكونوا مجرد مؤيدين للنظام، بل جزءاً من آلة الترويج له، بوعي كامل ودون أي محاولة للتراجع أو مراجعة مواقفهم، حتى بعد انكشاف جرائم السلطة التي دافعوا عنها لعقود.
يندرج تحت هذه الفئة:
علي مهدي، هاشم عبد السلام، وآخرون، وهم رموز ارتبطت بالنظام، وسنتطرق إليهم متى سنحت الفرصة.
أخيراً، المحاسبة العادلة لا تعني الإقصاء المفتوح
نعم المحاسبة ضرورية، لكن الإنصاف يقتضي التمييز بين الحالات المختلفة:
من أخطأ مرة وتراجع عنه بوضوح، وقدم أعمالاً مناهضة للنظام، لا يمكن مساواته بمن استمر في دعم السلطة دون اعتراف أو اعتذار.
ومن التزم الصمت على خطئه، لا يُقارن بمن تحوّل إلى بوق دعائي للنظام بشكل ممنهج.
الأخطر في نهج الإقصاء المطلق أنه قد يدفع حتى من يرغب في الاعتذار والمراجعة إلى التمسك بمواقفه القديمة بدلاً من تصحيحها.
فعندما لا تُفرّق المحاسبة بين الخطأ العابر والجريمة المتعمدة، يصبح التراجع عن المواقف الخاطئة أكثر صعوبة، مما يعمّق الانقسامات بدلاً من معالجتها، لانه إذا مُنع الأفراد من فرصة التصحيح، فقد يجدون أنفسهم مضطرين للدفاع عن أخطائهم بدلاً من الاعتراف بها.
وهكذا، يتحول الإقصاء المطلق من أداة لتحقيق العدالة إلى حاجز يمنع التغيير، ويؤدي إلى خلق المزيد من العداء بدلاً من تمهيد الطريق لمستقبل أكثر وعياً وإنصافاً للثورة.
مما يعني أن ثقافة الإقصاء ليست فقط غير عادلة، بل قد تكون أيضاً غير مجدية على المدى البعيد، وهو أمر لا يخدم مسار الثورة.
أما غير ذلك، فلن يكون سوى إعادة إنتاج لمحاكمات عبد الغفار العبثية، حيث يُقتل المرء ألف مرة، لا لشيء سوى أنه حاول أن يعود.
وعندها، لن تكون القضية مساءلة عادلة، بل فرض وصاية لا تختلف عن تلك التي ثارت ضدها الثورة.
ختاماً:
ويبقى حارس النوايا متمسكاً بقناعاته، يرى فقط ما يريد أن يراه، غير آبهٍ بما قد تكون عليه الحقيقة.
هذا ما سنتناوله في المقال القادم.
شارك المادة