العدالة من السماء: الأقمار الصناعية أداة لمحاسبة مجرمي الحرب في السودان
Admin 5 أبريل، 2025 56
أ. د. فيصل فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
• في عالم تتسارع فيه وتيرة التكنولوجيا، لم تعد السماء فضاءً صامتًا، بل أصبحت شاهدًا حيًا على ما يجري على الأرض، حتى في أكثر بقاعها ظلمة. ومع اتساع رقعة الصراعات في السودان، وازدياد فظائع الحرب التي أدمت القلوب، بات من الضروري ألا تقتصر المطالبة بالعدالة على الشعارات والمواقف الإنسانية فقط، بل أن تُستند إلى أدلة مادية لا يمكن إنكارها. العدالة، اليوم، لم تعد مجرد مسألة قانونية، بل هي قضية وجودية لشعب بأكمله يسعى للحقيقة، والكرامة، والحياة.
في هذا السياق، ومع دخول الحرب في السودان عامها الثاني، وسط دمارٍ شامل وأزمة إنسانية متفاقمة، تتزايد الأصوات المطالبة بتحقيق العدالة، لا كترفٍ أخلاقي، بل كشرط أساسي لأي سلام مستدام. وبينما تبدو فرص التوصل إلى تسوية سياسية ممكنة، يبقى السؤال الجوهري: هل ستتبع هذه التسوية محاسبة حقيقية لكل من ارتكب جرائم ضد المدنيين؟ وهل سيُسمح للتاريخ أن يُعاد مرة أخرى بلا عبرة، أم أن التكنولوجيا ستلعب دورًا في كشف الحقيقة ومحاسبة الجناة؟
الخرطوم… منارة تحولت إلى جحيم
منذ اندلاع القتال في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تحولت الخرطوم إلى ساحة حرب مفتوحة. أحياء بأكملها سويت بالأرض، منشآت طبية قصفت، وعمليات اغتصاب واعتقال ونهب ارتُكبت على نطاق واسع. هذه الانتهاكات لم تقتصر على الدعم السريع وحده، بل طالت أيضًا أفرادًا من الجيش السوداني، والقوات المشتركة، ووحدات أمنية ومليشيات تابعة للحركة الإسلامية مثل «كتائب البراء»، الذين وثقت شهادات متكررة مشاركتهم في عمليات قمع وتصفية واعتداء على المدنيين.
في ظل انعدام التوثيق الميداني المباشر بسبب خطورة الأوضاع الأمنية، تبرز أهمية التكنولوجيا، وعلى رأسها صور الأقمار الصناعية، كأداة لإثبات الجرائم ودعم جهود العدالة الانتقالية.
العين التي لا تنام: كيف تساعد الأقمار الصناعية في التوثيق؟
توفر الأقمار الصناعية صورًا عالية الدقة يمكن من خلالها رصد وتحليل التغيرات الجغرافية والأنشطة غير الطبيعية على الأرض. هذه الصور باتت تُستخدم على نطاق واسع في توثيق الانتهاكات في مناطق النزاع، كما حدث في سوريا وبورما وأوكرانيا. في السودان، يمكن للأقمار الصناعية أن تساعد في:
• تحديد مواقع المقابر الجماعية من خلال رصد تغيرات في سطح التربة.
• توثيق الدمار في الأحياء المدنية، عبر المقارنة بين الصور قبل وبعد القصف أو الحرق.
• كشف تحركات المليشيات وتغيّر مواقع انتشارها.
• مراقبة النزوح القسري من خلال مراقبة تمدد المخيمات أو تدمير القرى.
هذه المعلومات يمكن تحويلها إلى أدلة قانونية تُستخدم في المحاكم الوطنية أو الدولية، أو ضمن تقارير منظمات حقوق الإنسان.
العدالة لا تعرف استثناءات
لا يمكن بناء سلام حقيقي إذا تمت محاسبة طرف دون الآخر. إن الجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم السريع لا تُبرر التجاوزات التي تورط فيها الجيش السوداني، أو القوات المشتركة، أو المليشيات الإسلامية التي أعادت إنتاج خطاب الجهاد والتكفير. العدالة لا تفرق بين من يرتدي زيًا رسميًا ومن يعمل في الظل، وكل من شارك في القتل أو التعذيب أو الاغتصاب يجب أن يُحاسب، بغض النظر عن انتمائه السياسي أو العسكري.
أي محاولة لتبييض صفحة طرف على حساب الضحايا ستكون بذرةً لحربٍ قادمة، وستؤسس لثقافة الإفلات من العقاب التي دمرت السودان مرارًا.
مبادرة «العدالة من السماء»
انطلاقًا من هذه الرؤية، يمكن للسودانيين في الداخل والخارج إطلاق مبادرة تحت عنوان:
«العدالة من السماء: الأقمار الصناعية لكشف جرائم الحرب في السودان»
تهدف هذه المبادرة إلى:
1. نشر الوعي باستخدام التكنولوجيا كأداة للعدالة.
2. دعم جهود التوثيق القانوني عبر صور الأقمار الصناعية وتحليلها.
3. الضغط على المجتمع الدولي لتوفير صور وبيانات لمناطق النزاع.
4. إشراك الجاليات السودانية في المهجر لدعم الحملة إعلاميًا وسياسيًا وتقنيًا.
5. التعاون مع منظمات حقوق الإنسان لتجميع الأدلة والبناء عليها في قضايا قانونية.
أنشطة مقترحة
• إنتاج فيديوهات تعريفية مبسطة حول كيفية استخدام صور الأقمار الصناعية في كشف الجرائم.
• التواصل مع منظمات مثل Amnesty International، Human Rights Watch، UNITAR-UNOSAT، وشركات تجارية مثل Planet Labs وMaxar.
• عقد ندوات وورش عمل اونلاين للسودانيين في المهجر لتدريبهم على فهم الصور الفضائية.
• بناء منصة رقمية آمنة تُعرض فيها الأدلة بشكل توثيقي وقانوني، مع حماية خصوصية الضحايا.
إشارات لإنهاء الحرب… ولكن ماذا بعد؟
رغم تصاعد الضغوط الدولية، وحديث البعض عن مفاوضات غير معلنة، فإن احتمالات إنهاء الحرب تبدو أقرب مما كانت عليه قبل أشهر. لكن هذا «الانتهاء» لا يجب أن يكون مجرد وقف لإطلاق النار، بل بداية لمرحلة جديدة تُبنى على العدالة والمحاسبة. فلا تسوية تُبنى على العفو العام يمكن أن تُعيد الثقة للمجتمع، ولا مصالحة بدون حقيقة يمكن أن تضمن الاستقرار.
التكنولوجيا في خدمة العدالة
ليست الأقمار الصناعية بديلاً عن الشهادات الإنسانية أو التحقيقات الميدانية، لكنها أداة قوية لتعزيز مصداقية الأدلة، خصوصًا في حالات الإنكار والتلاعب بالروايات. كما أنها تتيح المراقبة المستمرة، وتكشف ما يُحاول البعض إخفاءه خلف الجدران أو في المناطق النائية.
في يد القانونيين، يمكن تحويل هذه الصور إلى عناصر إدانة. وفي يد الإعلام، يمكن أن تُشكّل ضغطًا دوليًا لا يُستهان به. وفي يد الناشطين، هي وسيلة لحفظ ذاكرة الضحايا، ولمنع طمس الحقيقة.
رسالة إلى السودانيين في الخارج
أنتم جسر بين الوطن والعالم. بإمكانكم قيادة هذه المبادرة، وتوفير الدعم الفني، وبناء التحالفات مع المؤسسات التقنية والحقوقية. لا تنتظروا من الداخل المُنهك أن يتحرك وحده، فالمعركة من أجل العدالة تحتاج الجميع، وخاصة من يمتلكون حرية الحركة والكلمة.
في نهاية المطاف، لا يتعلق الأمر بمجرد توثيق صور أو بناء أرشيف للانتهاكات، بل برسم مسار جديد للعدالة في السودان، مسار لا يخضع للمساومات السياسية، ولا يُبنى على النسيان. إن الأقمار الصناعية، بأعينها الساهرة، تقدم فرصة ذهبية لكسر دائرة الإفلات من العقاب التي خنقت البلاد لعقود. لكن هذه الأداة، مهما بلغت دقتها، تحتاج إلى من يستخدمها بجرأة، ويحوّل بياناتها إلى قضايا، وصورها إلى ضوء في نفق الحقيقة.
رسالتنا للسودانيين، في الداخل والخارج، أن يجعلوا من هذه اللحظة نقطة تحوّل، لا مجرد محطة عابرة. أن يُحمّلوا السماء رسالة الأرض، ويُسمعوا العالم أصوات الضحايا التي حُجبت خلف ركام المدن وصمت الإعلام.
فلنُعطِ السماء صوتًا، ولنحوّل صورها إلى سلاح من أجل الحقيقة.
لأن من يملك الجرأة على ارتكاب الجريمة أمام أعين العالم…
يجب أن يُحاكم تحت أنظار التاريخ.
ولأن العدالة ليست مطلبًا، بل حقٌ لا يسقط بالتقادم.
شارك المقال