
م. إسماعيل آدم محمد
كاتب صحفي
• “خلاص بعد ده ديل ناسي وما بصاحب غيرهم”. هكذا تكلمت بتول بت حاج المبارك أو ماما بتول كما يناديها أهل الحلة، فهي معلمة الروضة وناشطة في العمل الطوعي، قامت على إنشاء الردمية للشارع الذي يربط القرية مع شارع الأسفلت، كما تقوم على شأن الجمعية التي تخدم في المناسبات المختلفة. فقد جاءت بالصدفة للمنزل ووجدت عدداً مقدراً من الصم والبكم، امتلأ بهم الحوش- شباباً، نساءً وأطفالاً، جُلهم من الصم. وقد جاء كل واحد منهم يحمل شيئاً لحفل نظموه لوداعي، يبدو بأنهم تواعدوا على التجمع، فقد علموا بسفري وطلبي قائمة بأسماء الصم والبكم وأرقام هواتفهم، فقد نويت أن أسعى للحصول على تزويدهم بهواتف ذكية، فهي أضحت وسيلتهم للتجمع والعمل، إذ لديهم جمعية واتحاد للصم، وتخدمهم أجهزة الهاتف في حياتهم اليومية. وقد لمستُ ذلك عند إقدامي على تنظيم دورة في لغة الإشارة بمدرسة الصم والبكم بالقرية، وطلبتُ منهم أن يساعدوا في إعدادها وتهيئتها لفعاليات الدورة، فقد وعدوا وأنجزوا أعمال النظافة وترتيب الفصل وتجهيز الصيوان. فقد كانوا يتجمعون بعد المغرب في ورشة الأطرش وفي دكان الطرش! وما خالف الحقيقة من أطلق عليهم “أصحاب الهمم”؛ ولا يدرك هذه الحقيقة إلا من عاشرهم- فقد عرفتهم قبل حوالي خمسة عشر عاماً، بالطبع أعرف بعضهم منذ مولده، ولكن أقصد معرفتي لهم كمجموعة.
قبل حوالي عقدين من الزمن، تواصلت معنا أ. محاسن زين العابدين- عليها الرحمة- لمساعدتها في الانتقال إلى العاصمة، وهو أمر عسير، خاصة للمعلمين. اتصلتُ بمسؤول كبير في التربية والتعليم، ولكنه للأسف لم يفعل شيئاً، والأنكي عندما حاولتُ الاتصال به على هاتفه، تم تحويلي إلى السكرتاريا! فيا لهم من مسؤولين غير مسؤولين! لا أدري شعور هؤلاء بعد أن فارقوا السلطة! أو التسلط! وقد تكرر هذا الأمر مع مسؤول آخر! كما أكده لي مسؤول كبير لا ينتمي إلى التنظيم، وحكى عن ألوان الأقلام، فهو إن أراد أن ينجز لك طلباً، سيمهره بلون معيّن، اتفقوا عليه! فانظر، هداك الله!
جاء محمد أسامة يحمل ثرامس الشاي، كما جاءت إخواته يحملن الكيك اللذيذ، جاءت طيبة، كما جاء أولاد الفكي، محمد جاء يحمل كرتونة بسكويت! جاءت الطرشاء بت خديجة وقد أطلقت زغرودة عذبة لأول مرة أسمع زغرودة سعيدة! كان حفلاً رائعاً وجميلاً، تجسد فيه الوفاء والإخاء والعطاء من الطرش، لذلك صدقت بتول بت حاج المبارك.
بدأت معرفتي للطرش، حين شعرتُ بالحاجة إلى مدرسة، فتكلمت مع أسامة بابكر، حول مبادرة لإنشاء مدرسة للصم بالقرية، تعلمهم لغة الإشارة وبعض الحرف والمهارات، مثل النجارة، وسرعان ما قاطعني أسامة قائلاً: “نجارة شنو؟ ديل أذكى منك ومني، دايرين نعلمهم الكمبيوتر”. ومن المدهش أنه لم يُجرِ تدريباً على النجارة ومع ذلك فقد تعلم محمد أسامة النجارة، ويمتلك الآن ورشة يعمل فيها عدد من الصم، وأضحت ملتقى للصم والبكم في الأمسيات، فهي تطل على شارع الأسفلت. ملتقى للأنس وللتشاور والنفير.
ومما زاد دهشتي، فقد كانت أول مهارة يدرسونها هي تشغيل الكمبيوتر! فقد تحصلتُ على 10 حواسيب من الهيئة القومية للاتصالات، بتوسط من بروفسير محمد علي حمد، عميد كلية الهندسة بجامعة الخرطوم. كان للهيئة القومية للاتصالات مشروع قومي للمعلوماتية، تم فيه توزيع أجهزة الحواسيب للمدارس والجامعات والنقابات.
كان لوصول الكمبيوترات أثر كبير في الإسراع بإنشاء المدرسة، إذ حفزت الصم للتجمع والعمل في تجهيز لافتة للمدرسة، وإعداد المنزل الذي تبرع به د. خليفة يوسف لبدء الدراسة، فله خالص الشكر والثناء. أيضاً قاموا بتكوين جمعية، وأعدوا قائمة بأسماء الصم والبكم في قرى المنطقة، وقد زاد العدد عن المائة، بمن فيهم كبار السن والأطفال، بمعدل أصم بكل قرية! هذه نسبة قليلة لعدد القرى الذي يزيد عن المائة قرية! وقد لا تكون الإحصائية شاملة، إذ نجد أعداد الصم في بعض القرى كبيراً. لسبب واحد، وهو زواج الأقارب، لذلك يوصى بعدم التزاوج بين الأقارب، إذا ما وجدت بعض الأمراض الوراثية، مثل الصمم.
تبدو كثرة أعداد ألصم بالمنطقة كظاهرة، وهو في تقديري قد لا يكون صحيحاً، ففي المدن لا نراهم في الشوارع كثيراً، لقلة حركتهم، أما في المناطق الريفية فهم وغيرهم من ذوي الهمم يندمجون في المجتمع، ويمارسون حياتهم بشكل جيد. لذلك نحتاج إلى إحصاءات دقيقة، لنحدد ما إذا كانت أعداد الصم ترتقي إلى ظاهرة وفقاً لمؤشرات الإحصاء.
اليوم قرأت خبراً مفرحاً حول توصل علماء الصين إلى علاج جيني للصمم، الأمل في وصوله إلى السودان.
تمكنا بدعم من بعض الجيران والإخوة من تجهيز مبلغ لإحضار عدد من الصم للكشف الطبي في مستشفى ابن سيناء، وذلك للإعداد لعمل سماعات. وقد كانت رحلة لا تنسى، إذ حضر بعضهم لأول مرة للخرطوم، ومن هنا جاء الود والوفاء من قبل هذه المجموعة الطيبة، لمستها عند زياراتي للقرية، وترحيبهم بي، ودعوتهم لشرب الشاي أو القهوة. والآن تجسد الحب والوفاء في حفل وداعهم والبلاد تشهد كرباً وفواجع، لم تصل الحرب إلى المنطقة حتى مغادرتي بعد فترة. ظللت أؤكد لمن ألتقي بأن الدعم السريع أو الجنجويد سيصلون إلى المنطقة، بل إلى أي مكان في السودان، فهم أحفاد أنصار المهدي! وقد وصلوا قبل أكثر من 100 عام إلى كل مكان، وذهبوا حتى إلى ما بعد حدود إثيوبيا وحدود مصر.
فشلنا في إحضار بقية الصم لإجراء الكشف الطبي، وهو ضروري لشراء السماعات، كما عجزنا عن إحضار الجهاز المتنقل من مستشفى ابن سيناء إلى المنطقة لعمل الكشف على السمع. أمر يؤكد ضعف ثقافة العمل الطوعي في البلاد، مما يتجلى في عدم إقدام الأفراد على العمل مع ضعف التمويل، إذ لا يقدم الناس على التبرع كما في الغرب الكافر!
فيا لها من مفارقة! كان للأهل دور مهم في إنشاء المدرسة، مثل أسامة بابكر، ومحجوب الفكي، وآخرين كثر، ساهموا بالمال والرأي. كذلك جمعية الشارقة الخيرية، عبر الشيخ جابر- فلهم عاطر الثناء والشكر. فقد كانت للمدرسة قصص نجاح يمكن أن تروى، مثل تفوق أم كلثوم عثمان في الشهادة الثانوية الفنية، إذ تحصلت على المرتبة الأولى! وهي شهادة يجلس إليها الجميع الصم وغير الصم وهم الأكثر عدداً! مما مكنها من دخول جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا وتخرجها في الفنون الجميلة. أذكر أن أم كلثوم جاءتني محتجة على عدم تكريمها، قبل عشرة أعوام عند تدشين مهرجان التميز والإبداع الأول بدلقا، بالرغم من أنها تحصلت على 81%! وقد وعدتها بالتكريم لاحقاً إن شاء الله- وقد حدث، فقد كرمناها عند تفوقها في الشهادة الثانوية الفنية بقرية الشيخ البصير في المهرجان الثالث. فيا لهمة الصم ونبوغهم! وعزيمتهم.
قبل الحرب، ربما بعد عامين أطلقتُ مبادرة لتعليم لغة الإشارة للخريجين في اللغات والإعلام وغير ذلك من التخصصات، بما يسهل من عملية إدماج الصم في المجتمع، ولخدمة الخريجين بتعزيز فرصهم باكتساب مهارة إضافية، تُيسر لهم فرص العمل في قنوات التلفزيون العالمية كمترجمين، وربما مقدمي برامج، إضافة للعمل في مدارس الصم وفي الجامعات مع تحسن أوضاع الصم والبكم في البلاد، إن شاء الله. لم تجد المبادرة استجابةً، ولكن مع الحرب والنزوح وجدت فرصة لتحريك المبادرة، وأثرتها مع بعض الإخوة، منهم من سخر! واتهمني بالحلم “إنت بتحلم”، ومنهم من زجرني قائلاً: “هذا وقت الاستنفار”، وعلى كل حال واصلت السعي واتصلت مع لجنة المقاومة ودون نتيجة مع دعوتي للتسجيل، وقد حان وقت الدراسة ولا شيء في الأفق! حتى أخبرني العوض محمد العوض بأن أتصل على أبوعبيدة أيوب وعبد الهادي محمد أحمد، إذ يُشهد لهما بعلو الهمة في العمل العام، وفعلاً تواصلتُ معهما، وكانا فوق توقعي! همةً وعزيمة مع استقامة وعمل دون كلل، ويعتمد عليهما في إنجاز المهام وتحدي الصعاب.
تحصلت على موافقة مديرة المدرسة وشابة من النازحين، لديها إلمام بلغة الإشارة ومعلمة من قرية قنب، وافقت على العمل. عند إنشاء مدرسة الصم كانت توجد معلمة واحدة، وقد تطوعت حتى قيام المدرسة، وتم استيعابها. الآن يوجد عدد من الملمات بلغة الإشارة، وقد تحصلت إحداهن على درجة الدكتوراه، وقد حاولت الاستعانة بها، إلا أنها غادرت البلاد للخارج!ساهمت أ.حنان بشير بجهد في العمل والتنسيق.
تسببت هذه الحرب في كارثة أخرى، لا يحس بها الناس حالياً، وهي هجرة من تبقى من كوادر مدربة- أطباء، مهندسين ومعلمين وغيرهم. ولكم أن تحصوا من هاجر من وسطكم.
قمتُ بزيارة المدرسة، وقد فوجئت بعدم وجود حمامات! حاولتُ مع آخرين صيانة الحمامات، وقد تعذر الأمر، وقد وجدنا الحل في استخدام دورة المدرسة الثانوية، بفتح باب يؤدي إليها، فهي مجاورة. سيخدم الدارسين و النازحين الموجودين بالمدرسة. فقد وجدتُ أسرة مقيمة بالمدرسة، ولم يشكلوا عبئاً أو إزعاجاً بالرغم من وجود عدد من الأطفال. وقد وجدنا من رب الأسرة أبوعبيدة تعاوناً كبيراً في نظافة الشارع والمدرسة، إضافة لتقديمه نموذجاً لإمكانية الإنتاج الزراعي في البيوت والحيشان، فقد شرع منذ وصوله في زراعة الخضروات مثل الملوخية والبامية وكان يبيعها تحت شجرة قريباً من المدرسة وشارع الأسفلت، الذي ربط القرى وأضحت جنباته سوقاً طولياً، بدءاً من قنب إلى دلقا والحليلة وبقية القري. وهو قد يكون بديلاً للسوق الكبير الذي يدعو لإنشائه عمنا المهندس محمد سعيد يوسف، سيوفر السوق فرصاً للعمل، وربما زيادةً في الإنتاج وتخفيضاً للأسعار.
عقب نظافة المدرسة، تم تنظيم الإفطار بالاتفاق مع بعض الأسر الميسورة الحال بتجهيزه. كما تبرع السيد عمر قسم السيد بالصيوان والكراسي لليوم الافتتاحي للدورة. وقد شرف الحفل د. عبد الرازق الطيب وود الكريستاوي من قبل منظمة همة. وكان لمديرة التدريب دور مهم في العمل، وتمكنت من استقطاب دعم مقدر من ضابط وحدة المجيريبا، السيد أيمن، وذلك بإعداد الشهادات. مما وفر علينا جهداً ومالاً كثيراً.
لقد فاق الإقبال على الدورة كل التوقعات، خاصة وأصوات المدافع وقعقعة السلاح ليست ببعيدة. تم قفل التسجيل بعد اكتمال العدد المستهدف وهو 20 دارساً. وعند بدء الدراسة وصل العدد إلى 33، مما اضطرنا للتسجيل لدورة ثانية.
جاءت الأستاذة سناء من قرية الولي، حيث تقوم بالتدريس في مرحلة الأساس، وتحدثت عن مشكلة عدم وجود مدرسة ثانوية للصم، وانقطاع طالبتين عن الدراسة بعد إكمالهما مرحلة الأساس. لذلك تناقشنا في إمكانية إنشاء مدرسة ثانوية عليا مع صعوبة تحرك الصم في المدن. ومخاطر الطريق. لذلك ثمة حاجة ملحة لإنشاء المرحلة الثانوية. بمدرسة دلقا.
ثمة أسباب مختلفة لإقبال الأفراد على تعلم لغة الإشارة.
لم أتمكن من حضور نهاية الدورة الأولى واحتفال التخرج. فقد تسلمت التأشيرة للسفر إلى خارج البلاد، وكما أشرت في بداية المقال، طلبت قائمة بأسماء الصم للسعي إلى مدهم بأجهزة موبايل ذكية، خاصة لمن لا يتوفر لديه جهاز في الوقت الحالي. مع خدمة الإنترنت، بما يمكنهم من التواصل مع بعضهم ومع أصدقاء الصم، وهي مجموعة الدارسين، فقد حولنا اسمها لتصبح أصدقاء الصم، وأضفنا إليها عدداً من المهتمين بالعمل العام. مع الأمل في مزيد من العضوية. وإنشاء صفحة على الفيس بوك.
بعد سفري وإعادة النظر وكتابة هذه الرسالة، توصلت إلى رؤى إضافية، آمل أن تجد استجابة ممن يتوصل إليها، بنشرها وتوصيلها لجهات قد تساعد هذه الفئة الهميمة.
1- مدهم بسماعات بعد إجراء الكشف الطبي.
2- تزويدهم بأجهزة الموبايل الذكي.
3- خدمة الإنترنت، ربما عبر شركات الاتصالات: زين، سوداني و إم تي إن. أو من خلال المبادرة العالمية للإنترنت المجاني، التي يقوم عليها مارك زوكيربيرجر وألان ماسك. والمعروفة باسكاي لينك. sky link
4- صيانة مدرسة الصم والبكم بقرية دلقا بمنطقة الحلاوين بولاية الجزيرة محلية الحصاحيصا، وزيادة الفصول مع تحسين البيئة.
5- إنشاء المرحلة الثانوية.
6- دعم صندوق التكافل للصم، لمساعدتهم في الأعمال الصغيرة.
فهيا ومعاً للإسناد والدعم والنشر في كافة الوسائط لخدمة هذه الفئة، ليس في دلقا ولكن في كل أنحاء البلاد، مع بقية ذوي الهمم، من المقعدين وفاقدي البصر.
في الختام الشكر للإخوة الذين ساهموا وساعدوا في قيام هذه الدورة، منظمة تنمية وتطوير منطقة الحلاوين (همة)، د. عبد الرازق الطيب، ود الكريستاوي وأ. العوض محمد العوض، عارف أحمد، د. صلاح الماحي، عمر قسم السيد وأ. أفراح حسن علي وكل الأهل بقرية دلقا.
شارك المقال
الاخوة الكرام
خلال الحرب تعرض أصحاب المهم الي عسف كبير من الجنجويد وفي حقيقة الأمر حتي في الخرطوم وفي اثناء وجود الجنجا في العاصمة،سمعت بان احد فاقدي العقل ،اخرج سكينا و اغلق الشارع،وقد حاول الناس اثنائه و لكنه واصل عمليته،حتي جاء احد عسكر الجنجا و لما عرف الموضوع ،اخرج مسدسه وارداه قتيلا…ولعلكم سمعتم عن تعسغهم مع عقيد من الجيش في الخرطوم وكذلك عميد مهندس في الضعين!
في احدي القري في الجزيرة ،شاهد احد الجنجا بصيرا ،يتلمس طريقه ،فسال منه ،ولما ادرك حاله ،تناول كلاشه وارداه قتيلا ،قائلا “اريحكم منو !”
في موضوع’ الطرش ديل ناسي ” تجدون في نهايته دعوة لتقديم العون لهم في شكل سماعات ومولايلات ذكية..فهلا ،سعيتم ؟ سامدكم بارقام بعض الصم لمن يريد ايصال اي عون لهم…