

إعداد: معتصم تاج السر
عضو مؤسس لحركة السودان الأخضر
بقلم: أ. د. بشير إبراهيم عثمان
العميد السابق لكلية الصيدلة – جامعة الخرطوم
• منذ فجر التاريخ، ارتبطت حياة الإنسان بالنبات.
فقد كانت الأوراق والجذور والبذور أول صيدلية عرفتها البشرية، ومنها انطلقت شرارة العلوم الطبية والصيدلانية.
اليوم، في ظل الأزمات التي يشهدها العالم صحيا واقتصاديا وبيئيا، يعود الاهتمام عالميًا بما يُعرف بـ «الصيدلة الخضراء» ، أي الاستخدام المستدام والآمن للنباتات الطبية، ليس فقط كعلاج، بل أيضاً كغذاء وداعم للاقتصاد.

من الطب الشعبي إلى التصنيع الدوائي
يعود استخدام النباتات كعلاج الي بداية ظهور الإنسان علي الارض ،ففي الحضارة المصرية القديمة استُخدم الثوم والبصل والحنظل كأدوية موثقة على جدران المعابد والبرديات. في الصين، وُضع أساس الطب التقليدي الصين (TCM) منذ آلاف السنين، وهو اليوم جزء رسمي من النظام الصحي حتي إن بعض كليات الطب التي زرتها تقدم برامج تجمع بين الطب الصيني التقليدي والطب الغربي.
في الهند، نظام «الأيورفيدا» وهو نظام طبي تقليدي هندي قديم يعود إلى آلاف السنين يستخدم مجموعة من العلاجات من بينها الاعشاب ، ما زال يُدرّس ويُمارس ويدعم الصناعات الدوائية العشبية.
في الحضارة العربية الإسلامية، قدّم ابن البيطار وابن سينا موسوعات جمعت وصف النباتات الطبية ومنافعها.
ثم جاء العصر الحديث ليشهد تحوّلًا نوعيًا حيث تمت دراسة العديد من النباتات الطبيه بصورة علمية واستخلاص مركباتها الفعالة وتصنيعها في أشكال صيدلانيه مختلفة مثل الحبوب و الكبسولات والحقن فمثلا:
الأسبرين:
مستخلص من لحاء شجرة الصفصاف.
الديجيتاليس:
من نبات قفاز الثعلب لعلاج أمراض القلب.
المورفين:
من نبات الخشخاش لتسكين الألم.
الكينين:
من نبات الكينا لمكافحة الملاريا.
الارتيمسين ومركباته مستخلص من نبات الشيح الحولي أو الشيخ الحولي وهو العلاج القياسي للملاريا بعد استشراء المقاومة للكثير من علاجات الملاريا كالكلوروكوين وغيره.
هذه الأمثلة وغيرها الكثير تجسد رحلة الانتقال من الأعشاب الخام إلى فصل المكونات الفعالة وإنتاج الدواء بمعايير دوائية صارمة.

النباتات الطبية وصحة الإنسان
لا تقتصر قيمة النباتات على إنتاج الأدوية فحسب، بل تشمل أيضًا تعزيز الصحة والوقاية من الأمراض فمثلا:
الثوم:
يخفض ضغط الدم ويقوي المناعة.
الكركم:
مضاد قوي للالتهابات والأكسدة.
الزنجبيل:
يعالج الغثيان ويحسن الهضم.
الحبة السودا:
دواء نبوي ثبتت فعاليات متعددة لها.
النباتات الطبيةاقتصاد عالمي متنامٍ:
تبلغ قيمة سوق الأدوية والمكملات العشبية عالميًا أكثر من 120 مليار دولار سنويًا، مع توقعات بمضاعفتها خلال العقد القادم.
من الدول المهيمنة علي هذا السوق،الصين التي نجحت في دمج الطب التقليدي في نظامها الصحي، وأصبحت صادراتها من الأعشاب والأدوية النباتية تغطي القارات.
الهند أيضا تمثل منافسا قويا ومصدرها للمنتحات الشعبيه وتقيم جامعة هامدارد بنيودلهي مؤتمرا سنويا حول الطب التقليدي وينعقد هذا المؤتمر في اكتوبر هذا العام تحت عنوان :
«الطب التقليدي: المؤامة بين القديم والحديث».
وتعتبر الهند من رواد «الصناعات الدوائية العشبية».
ألمانيا تعد من أكبر أسواق الأدوية النباتية في أوروبا، حيث تُباع بعض الأدوية العشبية بوصفة طبية.

السودان وفرص الصيدلة الخضراء:
السودان غني بالنباتات الطبية ذات القيمة العالية غذائيا وعلاجبا، مثل:
الصمغ العربي:
مادة دوائية وغذائية فريدة تدخل في مئات الصناعات وأثبت فعاليه في أمراض الكلي وكبريبويتك
الكركدي:
مشروب صحي وصادر اقتصادي مهم.
الحلبة:
تستخدم في الطب الشعبي ولها سوق إقليمي واسع٠
الخروب:
«ذهب أخضر» واعد للاستثمار الغذائي والدوائي.
السنمكا: تنمو بريا وتجمع وتصدر من قبل بعض الشركات حيت تعد مصدرا مهما لأدوية الامساك.
القنقليز:
صيدلية متكاملة العديد من الأمراض ومصدر غذائي مهم لمضادات الاكسدة.
إن تأسيس صناعة وطنية قائمة على النباتات الطبية يمكن أن يخلق فرص عمل، ويرفد الاقتصاد الوطني بعائدات كبيرة، إلى جانب رفع مكانة السودان كمصدر عالمي للموارد الطبيعية المستدامة.

نحو دمج العلاج العشبي في النظام الصحي
تُقدّر منظمة الصحة العالمية أن ما يصل إلى 80% من سكان بعض الدول الأفريقية والآسيوية يعتمدون على الطب التقليدي والأعشاب كمصدر رئيسي للرعاية الصحية الأولية، ويعود هذا الاعتماد إلى تكلفة المستحضرات الصيدلانية الباهظة مقارنة بالتكلفة القليلة أو المعدومة للأعشاب.
على الرغم من فوائده، يواجه الطب التقليدي تحديات تتعلق بوضع سياسات وطنية وتنظيمية لضمان سلامة وفعالية وجودة هذه العلاجات، لذا تشجع وتدعو منظمة الصحة العالمية إلى الاستخدام الرشيد للنباتات الطبية، مما حدا بالكثير من الدول الي دمج العلاج الشعبي بشكل رسمي إلى جانب الطب الحديث في أنظمتها العلاجية المعتمدة من قبل النظام الصحي الرسمي للدولة.
السودان بدأ فعليا في هذا الطريق منذ زمن طويل من خلال إنشاء وحدة النباتات الطبيه والعطرية بالمجلس القومي للبحوث ومن خلال كليات الصيدلة التي فاق عددها الخمسون كليه والتي تقوم سنويا بدراسة وتوثيق الأثر العلاجي للكثير من النباتات والممارسات الأخري المستخدمة في الطب الشعبي التقليدي مما يؤدي لضمان معايير السلامة والجودة، وتطوير منتجات دوائية وغذائية تحمل هوية سودانية.

خاتمة
الصيدلة الخضراء ليست مجرد عودة إلى الماضي، بل هي مستقبل واعد يجمع بين الحكمة القديمة والعلم الحديث، بين الصحة والاقتصاد، وبين الإنسان والطبيعة.
في اليوم العالمي للصيادلة، ونحن نحتفي بدورهم في خدمة صحة الإنسان، يجدر بنا أن نتذكر أن كثيرًا من الأدوية التي تنقذ الأرواح اليوم قد بدأت رحلتها من ورقة نبات أو بذرة أو لحاء شجرة.

اليوم العالمي للصيدلي: بين حماية الصحة وتقنين التراث العلاجي
اليوم الخامس والعشرون من سبتمبر من كل عام يحتفل الصيادلة في كل بقاع العالم بيوم الصيدلي العالمي الذي يصادف ذكري تأسيس الفدرالية الدولية أو الاتحاد العالمي الصيادلة في العام 1912م.
يأتي الاحتفال هذا العام !تحت شعار : «فكر في الصحة:فكر في الصيدلي»
تذكيرا بالدور الهام الذي يقوم به الصيادلة في الحفاظ علي وتعزيز سلامة المرضي من خلال الاستعمال الراشد للأدوية ومنع وتقليل الاخطاء الناتجة من استعمالها اضافة لدورهم في تعزيز الصحة العامة من خلال الارشاد والتوعية وسط مجتماعتهم منذ ان كانوا طلابا ولعل اوضح مثال ذلك القوافل العلاجيه وما يصحبها من حملات ارشادية للتوعية والوقاية من الكثير من الامراض والممارسات الضارة وغير الصحية.
من الأدوار المهمه المنوط بالصيادلة القيام بها هو التأكد من الاستخدام الامن والفعال للنباتات الطبيه سواء كانت أدوية موصوفة أو نباتات خام يتم استخدامها كجزء من موروث الطب الشعبي التقليدي.
في هذا العام نستذكر الدور الهام الذي لعبه ويلعبه الصيادلة في علمنة وتقنين الاستخدام الامن والفعال للنباتات الطبيه بالسودان.
السودان كغيره من الدول الغنية بتراثها في الطب الشعبي والتقليدي خطت خطوات لا بأس بها لتقنين وعلمنة هذا التراث من خلال إخضاعه للتجريب والبحث العلمي وسنويا تنشر عشرات الابحاث من كلية الصيدلة جامعة الخرطوم حول الأثر العلاجي لبعض الاعشاب المستخدمة في الطب الشعبي كما ان بالمحلس القومي للادوية والسموم لجنة مختصة لتنظيم التسجيل و الإعلان عن الوصفات الطبية و المنتجات ذات الأصل النباتي.
كذلك الادارة العامة للصيدلة بوزارة الصحة الاتحادية قامت منذ عدة سنوات بوضع السياسة القومية للطب التقليدي وطب الاعشاب والتي أوصت بإنشاء (المجلس اللأعلى للطب التقليدي وطب الأعشاب) وأوصت بمنح المجلس كل الموارد الضرورية للقيام بواجباته لتطوير و ضبط وتنظيم الطب التقليدي و طب الأعشاب عن طريق برامج التحقق والإثبات العلمي و الصياغة الصيدلانية والتنفيذ والتنسيق والمراقبة والتقييم.
كما أوصت بأن يكون هذا المجلس هو السلطة الأعلى بوزارة الصحة الاتحادية المسؤلة عن تنظيم ومراقبة و ترخيص و ضبط ممارسي الطب التقليدي وطب الأعشاب على المستوى القومي، وهو الذي يختار النباتات الطبية الأساسية و يحدد المقاييس و المعايير في مجال الطب التقليدي وطب الأعشاب.
كما أوكلت هذه السياسة للمجلس القومي للأدوية والسموم صياغة القوانين واللوائح التي تنظم الإعلان والترويج للطب التقليدي وطب الأعشاب ومنتجاته ومراجعة وفحص الإدعاءات المبالغ فيها كتلك الورادة والمتدوالة عن عشبة بن علي اليمني المعجزة.
ومع إعتراف السياسة بالطب التقليدي وطب الأعشاب كمورد يمكن أن يُسهم في تحسين خدمات الرعاية الصحية، وخاصة الرعاية الصحية الأولية وتشجيعها لكل الوسائل التي يمكن إستخدامها لدمج الطب التقليدي وطب الأعشاب في نظام تقديم الخدمات الصحية على أساس السلامة والجودة والفعالية، إلا إنها ومن أجل تعزيز الاستخدام الآمن، دعت لوضع إطار شامل من التشريعات للسيطرة الأمنة و الفاعلة على كل انشطة الطب التقليدي و طب الأعشاب بما في ذلك تنظيم استيراد وتصدير الأدوية العشبية للتأكد من أن منتجات وممارسات الطب التقليدي و طب الأعشاب ذات مأمونية ونجاعة كما دعت لصياغة لوائح لتنظيم و الرقابة على المواد الإعلانية والترويجية. فهلَّا تقدمنا خطوة نحو تطبيق تلك السياسات التي تداعي لها الخبراء والمختصون من كل حدب وصوب؟؟.
كلمة الإعداد: الوعد والمنى
إن التغيير الإيجابي الإنسيابي الإبداعي الأخضر رؤية ترتبط بالارتقاء بالمعرفة والصحة والاقتصاد من خلال استثمار الموارد الطبيعية بشكل مستدام وواعي.
«فالوعد» هنا هو الالتزام بتقديم فكر متجدد يجمع بين العلم والتراث، بين الأصالة والمعاصرة وبين الإنسان وبيئته، ليكون المقال منبراَ للمعرفة التي توسع آفاق القارئ وتلهمه للتفكير في حلول عملية وصحية واقتصادية مستدامة.
أما «المنى» فهي الأمل في أن يسهم هذا الطرح في تحويل المفاهيم النظرية إلى واقع عملي يثري الاقتصاد الوطني ويُعيد الاعتبار للطب التقليدي والنباتات الطبية كموارد صحية واقتصادية قيّمة تستحق الرعاية والحماية والتطوير.
وبهذه المناسبة تتقدم حركة السودان الأخضر بأحر التهاني لكل صيادلة بلادي الكرام بمناسبة يومهم العالمي، تقديراً لدورهم الحيوي في صحة الإنسان والمجتمع.
بهذا الوعد وتلك المنى نضع هذه المادة بين يدي القارئ الكريم إيماناً بأن الكلمة الصادقة حين تُزرع في أرض خصبة من العقول والقلوب ستنبت غداً واقعاً أفضل وأكثر إشراقاً واستدامة.
شارك المقال