• أين ذلك السودان، موطني الحبيب؟ لماذا تحوّلت الوجوه الصافية البشوشة الطيبة إلى وجوه كالحة حزينة ومخيفة؟
في ذاكرتي وذكريات أسرتي، هناك خال في نيالا، وآخر في أم روابة، وعم في أم درمان. أما الآخر فقد جاب كل أرجاء السودان لأنه كان يعمل في مجال الري، واستقر به المطاف في الخرطوم. وكان لنا عم في الشرق، بينما يتوزع بقية الأهل في الأراضي الشمالية.
كنا نشعر بأن كل جزء من هذا الوطن ينتمي إلينا، وكل أجزائه لنا وطن.. وما زلنا.
كانت أمنيتي في ريعان الشباب أن أزور كردفان الحبيبة ودارفور السلطان، لكن الظروف لم تسمح لي سوى بزيارة عابرة لأم روابة، حتى لو كانت لساعات مسائية قصيرة. هناك شممت رائحة الخال الشمالي الممزوجة بطيبة كردفان الأصيلة.
جاء والدنا من الشمال بقصد العمل التجاري، ونجح في ذلك، لكنه كان يبحث عن ذاته، لأن الوظيفة كانت أعمق بركة وأكثر استقراراً. كان ذلك في عام 1946، أي قبل الاستقلال.
كان هناك سودانٌ آخر… كانت البنات تغنين: «يا مغترب، يا تاجر غرب».
أكثر ما كان يثير إعجابنا تلك القطارات التي تجوب أرجاء السودان لعدة أيام. كانت رحلات ممتعة مع العائلة، مع التصاريح والزاد. لا أنسى تلك الاستقبالات الحافلة في محطة سكة حديد مدني، حيث كانت تفوح من القادمين روائح كردفان ودارفور العطرة، ويرتدون الجلباب الأبيض الناصع، وينتعلون «المركوب النمر»، وتلك الروائح الجميلة التي لا تُنسى.
بالمناسبة، أين عطر «الصاروخ» التي كانت تأتي من غربنا الحبيب؟
هل كان هناك ذهب وبترول؟ كان هناك التبلدي والصمغ واللحم الضأن، وتاجر الغرب وأبناؤه النبهاء، مثل الدكتور خليل وعادل دريج. يا لها من شطارة رضعوها!
أين ذلك السودان؟ كنا نعيش في حي عمالي، وفي نهاية الشهر، عندما تنفد الرواتب، تصبح الجدران والأواني والصحون و«البستلات» والنفاجات، كأنها موقف مكتظ بالركاب. كانت حياة مترابطة تدل على تماسكنا وتعايشنا السلمي الأهلي. جارك من اليمين من جبال النوبة، ومن الشمال من دارفور، وخلفك دنقلاوي، وآخر من الجزيرة، وأمامك من كردفان الغرّاء «أم خيراً جوة وبرة» تتنوع الثقافات والتراث في تناغم جميل. ما أجمل الوطن وهو متنوع!