

إعداد: معتصم تاج السر
عضو مؤسس لحركة السودان الأخضر
بقلم : كمال إدريس
• لا يُخفى على أحد حجم التحديات التي تواجه السودان بعد سنوات الحرب والتشرد والأزمات، لكن التاريخ يثبت أن الدول التي اجتازت محنًا مشابهة استطاعت التحول إلى نمور اقتصادية وسياسية بفضل رؤى استثنائية. ورغم اختلاف الوقائع، إلا أن نماذج رواندا والمملكة العربية السعودية ودول أخرى في تحقيق وثبات ناجحة وتقدم تنموي هائل تعتبر نماذج ملهمة للسودان، خاصةً في ظل تشابه الظروف الزمانية والمكانية، وقدرة كل هذه النموذج على تحطيم الروتين والاعتماد على قرارات جريئة مدعومة بإرادة سياسية وأرقام ملموسة.

ومن المفيد أن تتم الاستعانة بخبراء في مختلف المجالات بهذه الدول لتقديم العون المطلوب وفق القطاعات عبر التعاون الثنائي أو الإقليمي وهو أمر يمكن تحقيقه من خلال فتح العلاقات وتوثيقها بالمتانة المطلوبة انطلاقا من إدارة الوطن الباحث عن مرج لأزماته المتكررة.
رواندا تحولت من الإبادة إلى معجزة اقتصادية، فبعد الإبادة الجماعية عام 1994، التي خلّفت أكثر من مليون قتيل وبنية تحتية مدمرة، تحولت رواندا إلى أسرع اقتصادات أفريقيا نموًّا بنسبة 7.2% في المتوسط سنويًا (2010-2019)، وفقًا للبنك الدولي. ولم يكن هذا النجاح صدفة، بل نتاج استراتيجيات واضحة، منها محاربة الفساد، فرواندا تحتل المرتبة 51 عالميًا في مؤشر مدركات الفساد (2023)، متفوقةً على دول أوروبية مثل إيطاليا.
استثمرت رواندا في البنية التحتية التكنولوجية، حتى باتت تُلقب بـ»سنغافورة أفريقيا»، حيث يساهم قطاع تكنولوجيا المعلومات بنحو 5% من الناتج المحلي.
وفي رواندا تشغل النساء 61% من مقاعد البرلمان، وهي النسبة الأعلى عالميًا، مما ساهم في تعزيز السياسات الاجتماعية.
هذا النموذج يؤكد أن السودان قادر على تحويل كوارثه إلى فرص عبر تحقيق الحوكمة الرشيدة، وتمكين الشباب والمرأة، خاصةً أن 62% من سكان السودان تحت سن 24 عامًا (توقعات 2023)، وهي طاقة ديموغرافية هائلة إن أُحسن توظيفها.

إذن، إذا كان النموذج الرواندي ملهمًا في التعافي من الحروب، فإن السعودية قدمت نموذجًا في تحدي «الانطلاق الراشد» عبر رؤية 2030 الملهمة. وفي غضون 8 سنوات فقط (2016-2024) حيث قفزت نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل من 19% إلى 37%، وتراجعت البطالة من 12.9% إلى 8.6%. ونمت القطاعات غير النفطية بمتوسط 4.8% سنويًا، ووصلت مساهمتها إلى 50% من الناتج المحلي في العام (2023).
وجذبت السعودية الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتحقق 19 مليار دولار في 2022، بزيادة 70% عن 2021.
وعلى الرغم من ثرائها النفطي إلا أن السعودية، اختارت أن تستثمر في الاقتصاد المعرفي والسياحة (مشروع نيوم، القدية، البحر الأحمر) والتصنيع المحلي، وهو ما يحتاجه السودان الذي يمتلك موارد طبيعية تفوق كثيرًا دولًا مجاورة، لكنه يعاني من سوء الإدارة وهشاشة الإنتاج.
ووفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يحتاج السودان إلى **حوالي 100 مليار دولار لإعادة الإعمار بعد الحرب، لكن التمويل لن يكون كافيًا دون خارطة طريق جريئة في مقدمتها تحقيق إصلاح مؤسسي عاجل عبر محاربة الفساد الذي يكبد السودان خسائر تُقدَّر بـنحو 30-40% من الناتج المحلي سنويًا (حسب الشفافية الدولية).
ثم يحتاج الى استنساخ النموذج الزراعي الرواندي، فرواندا حوّلت الزراعة من قطاع معيشي إلى صناعة تصديرية (15% من الصادرات). والسودان يمتلك 45 مليون فدان صالحة للزراعة، يستغل منها 20% فقط.
وعلى سودان الغد الاستثمار في الطاقة المتجددة، فالمملكة العربية السعودية تستهدف 50% طاقة متجددة بحلول 2030. والسودان يمكنه إنتاج 100 جيجاوات من الطاقة الشمسية (تقديرات البنك الأفريقي للتنمية)، وهو ما يكفي لتصدير الكهرباء لدول الجوار. كذلك ضرورة تسخير الثروة الشبابية عبر إنشاء صندوق وطني للابتكار برأس مال أولي 500 مليون دولار، على غرار «صندوق الاستثمارات العامة» السعودي.
سادتي؛ إن التاريخ لا يرحم المتخاذلين، والتجربتان الرواندية والسعودية تثبتان أن الإصلاح لا يحتاج إلى عقود، بل إلى جرأة وإرادة تُترجم بأرقام ومواعيد نهائية.
ومؤكد أن السودان ليس فقيرًا، لكن ثرواته تُسرق أو تُهمل، ونجاح سودان ما بعد الحرب يتطلب جرأة رواندا في الإصلاح، وطموح السعودية في التحول، وتذكير النخبة بأن «المانشيتات» الصحافية وحدها لن تُطعم شعبًا ينتظر مارد التنمية لينهض.
البحث عن نماذج
في حقيق الأمر لا يوجد نموذج واحد يناسب الجميع، لكن المزج بين الشفافية السياسية، والاستثمار في رأس المالي البشري والتنويع الاقتصادي تشكل مفاتيحاً للنجاح.
ونموذج السودان يحتاج إلى خطة طويلة المدى تُبنى بالإجماع الوطني، والمصالحة بين التيارات المختلفة حتى يستطيع المواطن الاستفادة م موارد بلاده الهائلة بذكاء.
ولتحقيق التحول إلى دولة قوية وثرية ومتماسكة، يمكن للسودان الاستفادة من نماذج دولية ناجحة في مجالات مختلفة، مع ضرورة تكييفها مع سياقه الخاص.

نماذج ناجحة اقتصادياً
اعتمدت سنغافورة في تحولها التنويع والاستثمار في رأس المال البشري، وقد اعتمدت على تحويل الموقع الجغرافي إلى مركز تجاري عالمي عبر البنية التحتية المتطورة، ومكافحة الفساد، وجذب الاستثمارات.
ووجه الشبه هنا الموقع الاستراتيجي للسودان بإطلالته على البحر الأحمر، حيث يمكن الاستثمار في ميناء بورتسودان وماحولها، وتطوير قطاعات الزراعة (بما أن السودان يملك أراضي خصبة)، وتعزيز الشفافية لاجتذاب رأس المال الأجنبي.
الواقع الاجتماعي كدافع للنجاح
عبر التماسك الاجتماعي، والمصالحة وإدارة التنوع نجحت رواندا في التعافي من مآسي الإبادة الجماعية عبر سياسات المصالحة (محاكم «غاتشاتشا») وتركيز الهوية الوطنية فوق الانقسامات العرقية.
وهذا النموذج يمكن تطبيقه في السودان عبر إنشاء آليات للحوار الوطني وتضمين جميع مكونات المجتمع دون اقضاء أو تمييز في العملية السياسية.
التوترات العرقية
استطاعت ماليزيا أن تخفض من التوترات العرقية عبر سياسات اقتصادية شاملة مثل «السياسة الاقتصادية الجديدة» لتمكين الأغلبية المالاوية. وهذا النموذج يمكن تطبيقه في السودان من خلال تبني سياسات تنموية عادلة بين المناطق المهمشة والمركز.
الحوكمة ومكافحة الفساد
وهذا نموذج آخر من بوتسوانا التي أبرزت الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وبناء المؤسسات، حيث استثمرت عوائد الماس في بناء مؤسسات قوية وشفافة، مما جعلها من أقل الدول فسادًا في أفريقيا.
وهذا النموذج يمكن تطبيقه في السودان من خلال تحسين إدارة الموارد الطبيعية (مثل الذهب) عبر هيئات مستقلة، وربط عائداتها بالتنمية المحلية.
العدالة الاجتماعية
حققت الدول الاسكندنافية توازنًا بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية عبر نظام ضريبي عادل وخدمات عامة فعالة، وهذا نموذج يمكن تطبيقه في السودان عبر تعزيز نظام الضرائب التصاعدي وتوجيهه لتمويل الصحة والتعليم.
التعليم والابتكار
آمنت جوريا الجنوبية بأهمية التعليم والابتكار كمحرك رئيس للتنمية، وقد ركزت على التعليم التقني والبحث العلمي، مما جعلها رائدة في التكنولوجيا. وهذا النموذج يمكن تطبيقه في السودان عبر إصلاح المناهج التعليمية لتركز على المهارات الرقمية والزراعية، وإنشاء مراكز بحثية مرتبطة باحتياجات السوق.
البنية التحتية
العدالة في التنمية والربط بين المناطق هو السر الذي تنطلق عبره إثيوبيا نحو المستقبل بثقة، وقد استثمرت في السدود والطرق لتعزيز الإنتاجية الزراعية والصناعية (مثل سد النهضة)، وهذا أيضاً نموذج آخر يمكن تطبيقه في السودان، بتطوير مشاريع ري لزيادة الإنتاج الزراعي، وربط المناطق النائية بشبكات النقل وغيرها.
الانفتاح الاقتصادي
استطاعت تشيلي أن تحقق ذاتها عبر الانفتاح الاقتصادي مع الحماية الاجتماعية، فجمعت بين الانفتاح على الأسواق العالمية وبرامج شبكات الأمان الاجتماعي. وهو نموذج ناجح ويمكن تطبيقه في السودان، بتشجيع القطاع الخاص مع توفير دعم مباشر للفئات الهشة (تحويلات نقدية مشروطة).
التحديات الملحة
ينبغي علاج التحديات الرئيسية التي تضمن الاستقرار والتنمية، ومنها إنشاء حكومة تمثل جميع الأطراف وتضمن انتقالًا ديمقراطيًا حقيقيًا، إلى جانب تأسيس هيئات رقابية مستقلة (مثل هيئة مكافحة الفساد في سنغافورة والسعودية)، كما ينبغي الاهتمام بالتفاوض لإلغاء الديون واجتذاب استثمارات أجنبية عبر تحسين بيئة الأعمال، وزيادة الميزانيات المخصصة للتعليم على ألا تقل عن 20% من الموازنة العامة للدولة.
رؤية حركة السودان الأخضر
في ختام هذا الطرح فإن نجاح السودان في التحول إلى نموذج تنموي ناجح لا يتوقف فقط على الاقتباس من تجارب الدول الأخرى بل يتطلب الاستفادة من سلبيات وايجابيات تحاربنا،. ومن ثم التوصل الى عقد اجتماعى توافقى، ورؤية وطنية متكاملة تنطلق من واقعه الفريد وتستند إلى إرادة سياسية صادقة وإجماع وطني بقوة دفع الشعب.
إن المبادئ التي تتبناها حركة السودان الأخضر تقدم خارطة طريق لتحقيق نهضة مستدامة عبر الالتزام بالنظم المؤسسية والحوكمة المنهجية، وتعزيز الإنتاج العضوي، والاستثمار في رأس المال البشري، وتمكين المجتمعات المحلية لتصبح فاعلة في مسيرة البناء والتنمية المستدامة.
ان السودان يمتلك موارد طبيعية هائلة لكن ما ينقصه هو إدارة علمية ومنهجية، تضمن استفادة جميع أبنائه منها بعدالة.
تؤمن حركة السودان الأخضر بأن التنمية الحقيقية تبدأ من الريف حيث يمكن لكل منطقة أن تضع بصمتها في خارطة الغذاء العالمية من خلال الإنتاج العضوي المستدام.
كما تؤمن بأن بناء اقتصاد قوي يتطلب جيشاً وطنياً موحداً يحمي اراضى الوطن وموارده،. ونظاما سياسا يقوده الشعب عبر مجالسه البلدية والريفية المنتخبة من كافة فئاته وقطاعاته فى كل ربوع الوطن، وبالتالى يتجاوز ذلك النظام السياسى الذى يقوده الشعب، كل اشكال القبلية والعنصرية والاثنية وغيرها من عوامل الفرقة والشتات ويعزز وحدة النسيج الاجتماعى ويشجع على الانتاج والمحافظة على البيئة لينعم الجميع بالتنمية المستدامة جيلا بعد جيل.
إن بناء السودان بعد الحرب يتطلب تطبيق نظم علمية ومنهجية لمواجهة الفساد، ومن ثم الشفافية في إدارة الموارد، واستثمارات استراتيجية في التعليم والابتكار والطاقة المتجددة.
يجب أن يكون المستقبل مبنياً على رؤية تحقق الاستقلالية الاقتصادية عبر الإنتاج بدلاً من الاعتماد الكامل على المساعدات والمنح، فان من لا يملك قوته لا يملك قراره.
السودان ليس فقيراً لكنه بحاجة إلى قيادة شعبية جماعية تتبنى التغيير الإيجابي الانسيابي الأخضر الذي يؤمن بأن النهوض لا يأتي عبر الشعارات بل بالعمل الدؤوب والقرارات المستمدة من العلمية والمنهجية.
لذلك فإن استلهام نماذج النجاح العالمية لا يعني نسخها بل تكييفها مع واقع السودان والاستفادة من طاقاته البشرية والطبيعية الهائلة ليصبح نموذجاً أفريقياً جديداً في التنمية المستدامة.
شارك المقال