السرد التاريخي: العودة إلى المنبع (1-2)

117
ليلى أبوالعلا

رواية ليلى أبو العلا .. روح النهر العتيق

Picture of عامر محمد أحمد حسين

عامر محمد أحمد حسين

• ثمة تجاذب يزيد وينقص عند تناول التاريخ  سرديا بمعنى استكشاف المعتم والمخبوء والمسكوت عنه بواسطة السرد الروائي ومع ماوصلت الرواية فإن متابعة المغامرة هي فرصة جيدة للنقد للوقوف على النماذج ومن يجيدون الكتابة التي تتطلب نفساً ملحمياً والإلمام بالمكان والزمان في نقطة التقاء الخيال بالوقائع.. 

وفي هذه الرواية روح النهر العتيق للكتابة ليلى ابوالعلا – ترجمة بدرالدين الهاشمي – مراجعة خالد فرح – دار المصورات 2024م ، يتم بعث تاريخ المهدية السودانية في فصول حية وذهنية سردية تستلهم التاريخ وتكتبه بروح الفن والخيال والإجادة والمعرفة  ..روايات الكاتبة الروائية السودانية  والبريطانية» ليلى ابوالعلا – تكتب بالانجليزية « رواياتها  التاريخية اخذت إطاراً شاملاً وخاصة كرم الاعداء عن بطل شيشاني «  وتقع ابوالعلا ضمن الادب العالمي المترجم لذلك تاتي اهمية قراءة هذه الكتابة إذ ان الكتابة بلغة اخرى من داخل ثقافتك المكانية، وتاريخك الوطني والاجتماعي، يمثل عالماً مختلفاً لرؤية مختلفة وغنية ، وبرعت ليلى ابوالعلا، في  كل رواياتها  احكام السيطرة على السرد، وتتبع حركة سير الشخصيات  حسب زمنيتها بمعنى زمن الحكاية واجادت التعبير  تماماً عن عصر تاريخي ، لغة وحركة وجغرافية، وانفعال مع  الاحداث والخطاب هو المرآة لهذا التاريخ،  وتتبع شخصيات منسية لم تكتب سيرتها مهمشة، تعيش في غربة من قيد سلطة او مجتمع ، ولم تعرف ادوارها ولم تسجل في التاريخ . 

تعيد  ابوالعلا   في رواية « روح النهر العتيق.» واقعية تاريخية  موضوعية إلى الحياة بادوات الخيال والتخيل السردي وفي التعريف : « التخيل السردي هو العملية التي يقوم بها الكاتب لخلق عوالم وأحداث وشخصيات خيالية في عمله الأدبي، سواء كان قصة قصيرة أو رواية  وهو يشمل استخدام الخيال لتوليد صور وأفكار جديدة، ودمجها مع عناصر الواقع بطرق إبداعية ومبتكرة «. منسية لم يسبق ان رأينا شخوصها على مسرح التاريخ  ..لاتخلو القراءة لهذه الرواية من تاكيد المتخيل السردي وتأثره بالمتخيل التاريخي لاحداث تاريخية لم تبارح ذاكرتنا ، وسؤال الواقع والخيال سؤال مستهلك ومكرر ومن قال بان الواقع غير ترجمة للخيال وبالنظر للثورة المهدية نجد انها فكرة وخيال متصوف في واقع مازوم ماساوي يفوق كل خيال اراد تغييره .بل ان السردية الشفوية التي تتناقلها الاجيال ومع كل زيادة هي الاقل من سنوات في سجن الخليفة والسيف والنار والسودان بين يدي غردون وكتشنر.

مفتتح

تبدا الرواية بمقدمة ، وهو مالم نعهده كثيراً في الكتابة الروائية ولكنها هنا ضروروية ومهمة وناجعة في تقديم روح النهر العتيق- بقلم الراوي العليم وتقع في مقام التوقير لشخصية حقيقية لأمرأة  وصلت مقام الشهادة – رابحة الكنانية-  «تتسلل رابحة من كوخها وتنطلق لتحذر المهدي ، يضيء الليل بقمر اصفر مكتمل ، يجب الا يراها المحيطون بالقرية ، وبتحرك حاكم فشودة عازماً على إبادة المهدي بصورة كاملة ونهائية يجب عليها ان تصل إليه قبله وتحذره -وكان المهدي وجماعته قد لقوا ترحيباً حاراً من قبيلة رابحة الاسبوع الماضي وكانت هي واحدة من كثيرين تجمعوا لينصتوا لخطبته وسلب لبها باخلاقه وابتسامته الحنون الشفوقة – قدمها تؤلمها لايمكنها إنكار ذلك الآن .تحس بنبض في قدمها اليمنى شعور غريب وكان الجلد مشدود وتمشي عوضاً عن ان تعدو ، توبخ نفسها ثم تبدو في الركض – ص ٨- ٩ ١٤ رواية روح النهر العتيق» هذه الرحلة لرابحة تنتهي « لاحقاً وعندما صارت الشمس في كبد السماء يؤم  المهدي صلاة جنازتها – ص ١٩ « .تقع رحلة رابحة الحقيقية في مقام الاسطورة ، الوهم الكبير المعشعش في الاذهان ، ان الاسطورة – خرافة- خيال بلا واقع يسنده ، استعادة ماراثون يوناني انتهى بموت الراكض – تزدهر روح المقاومة في ظل الثورات بامثلة سيروية سردية زاهرة وزاخرة بالدروس ، في كل مراحل التاريخ المحكي الشفوي – الشفهي ، تجد التربة مهيأة لغرس بذرة في ارض لم تمهد لما اهمله التاريخ ، فإذا كان طرح السؤال عن هذا التاريخ والاجابة يقترنان بحتمية دخول حقل الغام  عن صورة المدرك منه عند العامة فإن الرواية السردية التاريخية في الادب تجدد حقل السؤال وتبعد كل ما من شانه منع الخيال والتخييل من ارتياد الآفاق، وعكس الزمن الراهن على الواقع. وتفسير الواقع الجديد من خلال الاجابة عن اسئلة اليوم ،في مأساة الرق- ماساة العنف السلطوي في حقب تعاقبت على الارض -وتجد الاجابة التي تخرج الكل من ثقل التاريخ وثقل اللسان ،مع الانتباه إلى التداخل الكبير بين التاريخ البعيد ،والمثال اليوم في ركض امراة في الحياة .والمثال في صورته الزمانية والمكانية هو الخيط الرفيع مثل سكين حادة تخترق المسافة بين المراحل تلك والواقع  والمعاش/ المثال، بعنفه وقهره، وسوط القاهر ورعب  المقهور ، وبعثرة الاوراق الاجتماعية في تصور الكل لصورته في الخيال، و عدسة مكبرة او مصغرة  تزيد مساحتها عندما  تغييب العيوب، وتصغر عند إمساك المقهور بسوط القاهر .وفي مثل هذه الرواية / الملحمة ، لاتكمن الصعوبة في  القراءة والكتابة الفنية والتقنية بل في الخطاب وتفسيره وتحليله من مرحلة الخيال والتخييل باعتبار المجتمع ككل هو بالضرورة الموضوع، والبناء السردي في ذاتية الراوي، وتكييف الواقعية التاريخية وتحويلها إلى واقعية موضوعية لاعلاقة لها بمحاكمة التاري،خ او محكمته بل بعالم الفن والسردالخيالي، وبالتالي موضعة الاحداث داخل عالم سردي مكتمل، لابمت للتاريخ المعروف بصلة مع وجود كل الصلات معه ..كم كانت مهمة الكاتبة قاسية ولكنها بما تمتلك من معرفة بعلم السرد وضعتنا امام نص مبهر واضح وشفاف…

خط سير

تلتزم الكاتبة ليلى ابوالعلا  خط سير للتاريخ ببعث سنوات الدولة المهدية السودانية ، بداية ١٨٨١ –  ١٨٨٣ ١٨٨٥ ونهاية  ١٨٩٧ ١٨٩٨م .الزمان والمكان بالتزام صارم بالتاريخ وكل خطوط سيره الواضحة والمتعرجة إذ تحفل الرواية بتواريخ ذاتية تتحرك داخل السياق التاريخي للمرحلة ، مع وقوف الراوي العليم بعيداً من مسؤولية تبني اي خطاب في انحياز او اعتساف. بل شاهد على مسرحة ضخمة لواقع متشظي .

اعتمدت الرواية على التزام السارد الموضوعي كبديل للذاتي المتحكم والملازم للسراد وهي ميزة لا يملكها احياناً من يكتبون التاريخ الحقيقي، وليس الخيالي اس وأساس الكتابة السردية. تخلت الساردة عن وظيفة المرشد للقارىء التي يدمنها بعض السراد إدمان الثرثرة داخل النصوص ، كي تقيهم شر البناء للشخصيات داخل المتن الروائي .بناء مواقع وتوقع واستشراف فتصح اللحظة الراهنة داخل النص المعبر عن تاريخ قديم لسياق معلوم والصحيح سرد تاريخ لاعلاقة له بالتاريخ وإنما يتمثله ولايخرج منه فينكشف الغطاء وتضيع الجهود المبذولة للتخلص من راوي عليم لم يستطع من الانا من اجل الآخر .قياس نجاح السارد في هذه الرواية البديعة يتمثل في تزويد القارىء بحصيلة وافرة من الثقافة واللغة والامكنة والملاحم الحربية، والشخصية والدموع، والدم ،كخيوط لمتن تاريخي ، كلما حاول احدهم رمزياً تتبعه ، عادت عليه المحاولة باسئلة من نوع – تشويه التاريخ ، والسؤال مشروع خصوصا عندما يتبنى التابع المقهور / صورته عند القاهر في  داخل إطار نفسي لمن ادمن القهر ووصف به ذاته وذوات الاسلاف.

نواصل..

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *