الرجعة للبيت القديم: حين يصير الشعر خريطة العودة بعد الحرب

145
حميد
Picture of أ. د. فيصل فضل المولى

أ. د. فيصل فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

• في كل بلد يمر بالحرب، يبحث الناس عن شيء يمسك بقلوبهم المكسورة، عن صوت يعرف كيف يحكي عنهم، لا بلغة السياسة ولا أخبار القنوات، بل بلغة الدفء، الشوق، والحياة اليومية البسيطة.
في السودان، وفي ظل حرب غطت وجه الوطن بالغبار والدم، تأتي قصيدة “الرجعة للبيت القديم” للشاعر الراحل محمد الحسن سالم حميد لتكون أكثر من قصيدة — إنها خريطة عاطفية للرجعة، دعوة للحياة من جديد، وترنيمة للوطن المكسور الذي نحبّه أكثر مما نظن.
لحنها وغناها الفنان المرهف حمزة سليمان، فجعلها تتسلل كالنسيم إلى دواخلنا، حيث تفتح باب الذكرى، باب الحنين، وربما — باب الأمل.
القصيدة كأنها كُتبت لزمننا هذا بالذات، لناس مشتتين بين الخيام، وبين الدول، وبين التعايش مع الفقد، يتساءلون: “هل ممكن نرجع؟ وهل في زول حيستقبلنا؟”
وحين تُقال الجملة الأولى:
“أنا ماشي … راجع…”
يتوقف الزمن.
لا نعرف إلى أين تمامًا، لكنه رجوع محمّل بالشوق، بالحب، وبإصرار الصابرين.
الرجوع بلا أسئلة… ولا شروط
في زمن الشتات، أول ما نفتقده هو الشعور بالانتماء غير المشروط.
وحين يقول حميد:
“لي بيوت تفتح لي.. أدق أو ما أدق
من غير تقول .. الزول منو؟
ولا حتى علّ الداعي خير؟
لا مالك؟ الجابك شنو؟”
فهو يصف الرجوع الحقيقي — الرجوع الذي لا يحمل الخوف، ولا التبرير، ولا العتاب.
رجوع بسيط، فطري، تلقائي… تمامًا كما يرجع الطفل لحضن أمه.
هنا، يظهر الفرق الجوهري بين بيت ومكان إقامة.
البيت، في مفهوم حميد، هو الكيان الذي يقبلك كيف ما جيت، مكسور أو قوي، حزين أو صامت.
وهذا المعنى اليوم أعمق من أي وقت مضى — لأن آلاف السودانيين أصبحوا لاجئين في أراضٍ لا تسألهم فقط عن هويتهم، بل عن حقهم في البقاء.
تفاصيل الحياة: البسيطة… والمقدسة
يواصل حميد في رسم مشاهد الرجوع كأنه يمشي داخل الحوش بالذاكرة، وكل زاوية بتناديه:
“النيمة يا العنابة ضُل
أغشى التُكُل
خرمان في شاي
جيعان أُكل
وداك التمر
والزير قريب”
هذه ليست فقط صور شاعرية، بل هي توثيق للذاكرة السودانية — التُكل، الشاي، النيمة، الزير، العنقريب… أشياء بسيطة، لكنها عند السودانيين هي الحياة ذاتها.
القصيدة ترجع كل مشاعر الفقد والضياع إلى لحظة واحدة مألوفة:
تدخل بيتك، تلقى الزير مليان، العنقريب مفتوح ليك، ما في زول قال ليك “وين كنت؟”
والأجمل، لما يضيف حميد:
“دُر تقرا ديك كتب الولاد
قلَّقت؟ أو طال الرِجِي؟
كُورِك نقولَّك… هُوي بُعاااد
رسِّل لنا المرسال، نجي”
بيتكلم عن تلك المحبة العميقة، التي تلاحقك بالاهتمام حتى وأنت بعيد.
البيت لا ينسى، لا يتغيّر، ينتظرك، ويقرأك حتى في غيابك.
الانتقال من البيت إلى الوطن
النقلة المفصلية في القصيدة تحصل لما يتحول الخطاب من الحوش والبيت إلى الوطن نفسه:
“يا روح بإحساس المحب
سيد بيت وعننا ما ضِهِب
الهِيلنا هيلك
شِن ندس ما طال
عُمراً يتحسِب”
هنا يصبح الوطن نفسه هو البيت، ليس فقط فيزيائيًا، بل شعوريًا، وجدانيًا.
حميد يقول إن الوطن ما غاب، وما نسينا، وما بدلنا.
وحتى الخير الجوانا، الهيل، الشاي، الكرم، المحبة — كلها له، ولأجله.
دعاء الوطن المجروح
وتأتي القفلة المهيبة للقصيدة، بدعاء صادق، يصلح لأن يُرفع من قلب كل سوداني:
“إن شاء الله يا بلدي المعمّر بالعشم
من سفّ خيرنا يكبّو محّ
إن شاء الله لا فاق لا نصح
بي الله ينكسر العوج
والصاح يصح”
هنا تتكثف القصيدة كلها في رجاء واحد:
أن يتشافى الوطن،
أن يعود الخير،
أن يُهزم الظلم،
وأن يصحو “الصاح”.
في هذه اللحظات من الألم الوطني العميق، تصبح القصيدة صلاة شعرية، مشفوعة بدموع المغتربين، وأنين من ناموا في العراء، وقلوب العائدين.
الرجوع فعل مقاومة… وكرامة
الرجعة، في معناها العميق، ليست استسلامًا.
هي أقوى أشكال الصمود.
أن ترجع رغم الركام، أن تعيد ترميم ما تهدّم، أن تسقي النيمة ولو ما ظلّلتك بعد، أن تعيد ترتيب الصور على الجدران إن وجدت الجدران…
فأنت تقول للعالم: “أنا ما انتهيت… والبلد دي ما ماتت.”
حين يصير الشعر وطناً
قصيدة “الرجعة للبيت القديم” ليست فقط حنينًا أدبيًا، بل وثيقة وجدانية لكل من فقد، نزح، اغترب، ثم اشتاق أن يرجع.
حميد كتبها كأنه يعرف أن الحرب جاية، وأن الناس حيتشردوا، وأن البيوت حتصير ذكرى، لكن الرجعة حتظل حلم حي.
وحين نسمع:
“لبيت دا بيتك يا الحبيب
أدخُل مُخيَّر… وماك غريب”
نصدّق.
ونطمئن.
ونبكي.
ثم نبدأ في طريق الرجعة…
ليس لأن الحال تمام، بل لأن الرجعة ذاتها مقاومة، ووفاء، وحب للوطن لا يموت.
لأن الرجعة فعل شفاء، ورجعة الروح للجسد، ولأن كل خطوة نحو البيت المكسور هي خطوة نحو ترميم أنفسنا.
نرجع رغم التعب، رغم الخوف، رغم أن الطرقات ما عادت كما كانت، لأننا نؤمن أن الوطن يُبنى بالقلوب قبل الطوب، وبالعشم قبل السلام.
نرجع عشان نُسمِّي أولادنا الشهداء على أسماء الشوارع القديمة، ونغني للبنات الغُبُش، ونحكي للجيل الجديد كيف كنا، وكيف صبرنا، وكيف رجعنا.

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *