الذهب بين تقلبات الأسواق وآفاق السودان في ربط التسعير بالمؤشرات العالمية

27
محمد كمير جاهز

محمد كمير

خبير اقتصادي

• يشهد الذهب اليوم حالة من التذبذب الواضح في أسعاره، مع استمرار حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي. فبعد خفض الفائدة الأخير للفيدرالي الأمريكي، وما تبعه من تحركات في مؤشرات الدولار، ازداد الإقبال على المعدن النفيس كملاذ آمن، وهو ما انعكس على الأسعار العالمية التي يترقبها المستثمرون بدقة. هذه التحولات تطرح سؤالًا مهمًا حول كيف يمكن لاقتصاد مثل السودان، الذي يعتمد بشكل أساسي على الذهب كمورد رئيسي للنقد الأجنبي، أن يحول هذه المتغيرات من عبء إلى فرصة.

طرق بيع الذهب المتبعة عالميًا تتنوع بين البيع الفوري في الأسواق والمتاجر المتخصصة، وبين العقود الآجلة في البورصات الكبرى مثل بورصتي لندن ونيويورك، حيث تُحدد الأسعار يوميًا وفق آلية العرض والطلب. كما أن البنوك المركزية وصناديق الاستثمار المتداولة تلعب دورًا كبيرًا في تحريك الأسواق، من خلال عمليات شراء وبيع ضخمة. وفي جانب التصدير، يتم شحن الذهب بعد توثيقه بختم نقاء معتمد عبر شركات مرخصة أو مؤسسات مالية، ليصل إلى أهم المراكز العالمية في أوروبا وآسيا وأمريكا.

إفريقيا تمثل لاعبًا محوريًا في صادرات الذهب العالمية، إذ تتصدر جنوب إفريقيا وغانا ومالي وبوركينا فاسو والسودان قائمة الدول المنتجة والمصدرة. ومع وجود شركات تعدين دولية عاملة داخل القارة، أصبح إنتاج الذهب الإفريقي مرتبطًا بشكل مباشر بالأسواق العالمية، فيما تظل مراكز مثل دبي والدوحة والرياض محطات تجارية رئيسية تربط بين إفريقيا وبقية العالم.

طرق التسعير العالمية تعتمد على آلية العرض والطلب في البورصات الكبرى، حيث يُعقد في لندن مرتين يوميًا اجتماع افتراضي لتحديد سعر مرجعي عالمي، بينما تتحرك أسعار العقود الفورية والآجلة في نيويورك حسب توقعات السياسات النقدية الأمريكية والتطورات الاقتصادية. العوامل المؤثرة على الأسعار متعددة، أبرزها السياسات النقدية للبنوك المركزية، مستويات التضخم، أسعار الفائدة، قوة الدولار، إلى جانب الأزمات الجيوسياسية التي تزيد من إقبال المستثمرين على الذهب كملاذ آمن.

من هنا يمكن التفكير في آلية مبتكرة لإدارة ملف الذهب السوداني ترتبط بهذه المؤشرات العالمية. فبدلًا من الاكتفاء بالبيع التقليدي بسعر الأونصة العالمي، يمكن أن تُعاد صياغة عقود التصدير، لتشمل معادلات ديناميكية مرتبطة بمؤشر الدولار وسعر الفائدة. فإذا ارتفع مؤشر الدولار وتراجعت القوة الشرائية، يحصل السودان على علاوة سعرية تعوّض الخسائر. وإذا خفّض الفيدرالي سعر الفائدة بما يدعم صعود الذهب، تُفعّل بنود تسعيرية تلقائية ترفع العائدات السودانية بما يتماشى مع الزيادة المتوقعة.

هذه الصيغة ليست فكرة نظرية، بل قابلة للتطبيق من خلال إدراج بنود مرنة في العقود طويلة الأجل مع شركات التكرير أو البنوك المركزية. يمكن مثلًا أن يُربط السعر النهائي بمتوسط السعر الفوري مخصومًا منه نسبة تقليدية، ثم يُضرب في معامل يتغير بحسب مؤشر الدولار أو بفارق سعر الفائدة. بهذه الطريقة يضمن السودان قدرًا من التوازن أمام تقلبات الأسواق التي طالما انعكست سلبًا عليه.

لتنفيذ هذه الرؤية، يحتاج السودان إلى بنية مؤسسية متخصصة، مثل وحدة متخصصة داخل بنك السودان،  أو الصندوق السيادي المقترح في مقالات سابقة لإدارة الذهب. هذه الوحدة يمكن أن تستفيد من أدوات المشتقات المالية في بورصة أجنبية وعربية للتحوط، وأن تبتكر منتجات استثمارية مرتبطة بالذهب مثل الصكوك أو الودائع الذهبية لجذب مدخرات السودانيين في المهجر. النتيجة المتوقعة هي زيادة عائدات الذهب بنسبة قد تصل إلى 10–15% مقارنة بالبيع التقليدي، مع تعزيز مكانة السودان التفاوضية في الأسواق الدولية.

لكن التحديات لا تزال كبيرة، أبرزها غياب الكفاءات المتخصصة والبنية التكنولوجية المتطورة المطلوبة لإدارة عقود معقدة بهذا الشكل. كما أن ضبط عمليات التهريب وبناء الثقة مع الشركاء الدوليين عبر إصلاحات اقتصادية ومؤسسية، يظل شرطًا أساسيًا لنجاح أي آلية جديدة.

إذا ما استطاع السودان أن يستغل نافذة الفرصة التي يتيحها خفض الفائدة عالميًا وصعود أسعار الذهب، فقد يحقق نقلة نوعية في إدارة أهم موارده الاستراتيجية. وعبر ربط صادراته بالمؤشرات العالمية، يمكنه أن يتحول من مجرد متأثر بالتقلبات إلى مشارك فاعل في صياغة قواعد اللعبة الاقتصادية، ليضع بذلك حجر الأساس لمستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا في قطاع الذهب.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *