الذاكرة السودانية: البروفيسور محمد عمر بشير.. قضايا الراهن بنغمة العلماء الفصاح
Admin 1 مارس، 2025 8

بقلم: محمد الشيخ حسين
• ماذا يحدث عندما ينتقل المؤرخ من داخل التاريخ ليؤدي دوره على خشبة المسرح الحديث؟
هل يلتزم الصحفي بحرفية الوقائع والأحداث ويتبع نفس الحركة السائدة في عملية التاريخ ذاتها؟.
هل للصحافي حرية الاختيار بين المواقف والوثائق مبرزا رؤية معينة قد يهملها التاريخ من أجل أن نصل بجماهير القراء المعاصرين إلى ذروة التنوير والتأمل وكشف حقائق جديدة؟.
لسنا في مقام الإجابة عن هذه الأسئلة لكن واقع الحال السوداني منذ فجر الاستقلال حتى يومنا هذا يفيد أن البروفسيور محمد عمر بشير هو أحد رواد اليقظة في الثقافة السودانية، بل كان أبرز المنادين بضرورة قيام النظام الذي يقدم المواطنة على الالتزام السياسي.
ويعد البروفسيور محمد عمر بشير أحد عمالقة الجيل الذي تلى جيل الراود مباشرة.
هذا الجيل يعتبره محمد المكي إبراهيم جيل اليقظة في الثقافة السودانية، جيل العطاء المتخصص، جيل الدراسات فوق الجامعية وجيل التأليف والنضوج الفكري والعاطفي.
ويبدأ وعي المفكر بواقعه في اللحظة التي يبدأ فيها وعيه بدوره في هذا الواقع، ويزيد من أهمية دور المفكر في البلاد المتخلفة ما يعانيه واقعها من تصادم مع العصر وقيمه؟
بداية الوعي
بدأ الوعي السياسي لجيل محمد عمر بشير في المدرسة الثانوية في مدينة أم درمان (العاصمة الوطنية) والمدرسة بجوار مؤتمر الخريجين والأساتذة هم قادة الحركة الوطنية، رحم الله: إسماعيل الأزهري، عوض ساتي، نصر الحاج علي، عبد الرحمن علي طه، وأحمد البشير العبادي.
في هذا الجو المفعم بالوطنية نما وعي هذا الجيل بقضايا الوطن الأساسية والتعبير عنها في الجمعيات الأدبية.
وفي عام 1946 دخل محمد عمر بشير كلية غردون التي كانت بوتقة الانصهار للوعي، آنذاك وشارك في العمل السياسي وقاد المظاهرات. ثم تطور الوعي السياسي إلى المشاركة بالكتابة وأخرج مجلة الجامعة الأولى.
تمخض عن هذا النضال ظهور الأحزاب السياسية التي شارك في نشاطاتها بصور شتى.
بعد الاستقلال دخل الوعي القومي مرحلة متقدمة تمثلت بالكتابة في قضايا السودان. وكان أول كتاب أصدره محمد عمر بشير عن تطور التعليم في السودان وكان في الأصل أطروحة جامعية.
وبعد ذلك انهمك في دراسة قضية الجنوب وكتب عنها كتابين وتولى سكرتارية مؤتمر المائدة المستديرة الذي توصل إلى نقاط كانت هي الأساس في اتفاقية أديس أبابا (مارس 1972).
وتوالت بعد ذلك المؤلفات عن الحركة الوطنية في السودان والتعليم في أفريقيا، وأصبحت المشاركة السياسية والعلمية والإدارية شيء واحد ولا انفصام بين ما كتب ومارس وارتزق منه.
رؤية جديدة
قد تبدو مسألة مثيرة ومقحمة لدارس التاريخ أو المؤرخ أن يصدر حكما عن حدث وقع في الماضي، مقارنة بتيار من الأحداث تقع اليوم؟
واقع الحال أن رؤية جديدة نحو تاريخ السودان أو التطور التاريخي في السودان تكونت في ذهن محمد عمر بشير.
وهذه الرؤية ترتكز على الحقائق الأساسية:
أولا: رزح السودان تحت حكم أجنبي ومصيره لا يتقرر بيد أبنائه منذ عام 1820 حتى عام 1956، والاستثناء فترة المهدية.
ثانيا: منذ الاستقلال وحتى الآن كان مصيرنا في معظم هذه الفترات في يد مجموعة من الناس واسميها المجموعة العسكرية الأولى والفرد العسكري الثاني.
ثالثا: البحث عن النظام الذي يليق بالسودان مازال مستمرا وأسميه البحث عن نظام، وفي أثناء البحث عن هذا النظام وصلنا إلى حقيقتين:
الحقيقة الأولى أن النظام البرلماني الديمقراطي الغربي الذي ورثناه من الاستعمار لا يصلح لأنه أجنبي.
الحقيقة الثانية أن النظام الفردي لا يصلح أيضا.
وخلاصة القول إننا لم نتوصل إلى الصيغة التي تعطي المجتمع السوداني العدالة والاستقرار ومازلنا في طور بناء الأمة.
ونظرا لكبر حجم السودان وتعدديته تاريخيا وجغرافيا وثقافيا وعرقيا وموقعه في وسط أفريقيا والعرب والأفارقة والإسلام والمسيحية وسائر المعتقدات الأخرى، فإن الصيغة التي يجب أن تسود هي الصيغة التي تضع في اعتبارها التعددية، ولا بد أن تضمن هذه الصيغة البقاء للمجموعات لتعيش معا في سلام. ونحن جميعا أهل السودان لا نملك خيارا سواء كنا مجموعات أو أفراد إلا العيش مع بعض، وليس لنا أيضا خيارا سوى أن نعيش في سلام مع جيراننا.
مخلاية أفريقيا
كان محمد عمر بشير يصف لكثير من الأصدقاء السودان بعبارة (مخلاية أفريقيا) بحسبان تأملنا للخريطة وليس سلة غذاء، لأن الكلمة سلة غير دقيقة باعتبار أنها مفتوحة من الطرفين، والحديث عنها خادع لأن ركائز التنمية غير مكتملة. وفي هذه الحالة تصبح السلة كالقفة المقدودة.
قد تنطبق صفة (القفة المقدودة) على جيل الرواد من الحركة الوطنية في السودان وأوائل المتعلمين هم الجيل الذي قاد إلى الاستقلال، ولكنه بكل أسف لم يتحمل تبعات ما بعد الاستقلال وقد تصدق على بعضهم مقولة (خرج الإنجليز البيض وبقي الإنجليز السود) ؟
يرى محمد عمر بشير أن هذا الجيل الذي قاد الحركة الوطنية تخرج أساسا من مؤسسة تعليمية واحدة. وعاش في ظروف سياسية فريدة على المستوى العالمي. وفي النطاق المحلي عاش ثنائية الحكم الذي كان يمارس في السودان.
هذا الجيل ورث تركة مثقلة، وفي تقدير محمد عمر بشير أنه لم يملك القدرات التي توصف لهذه التركة العلاج الناجع.
العلاج الناجع
يقصد محمد عمر بشير بعبارة العلاج الناجع الأتي:
في السودان أنشئت مدرسة ثانوية واحدة هي كلية غردون، والسياسة التعليمية الاستعمارية لم تخرج مؤهلين في مجالات الاقتصاد أو مفكرين أو باحثين. وكان الغرض الأساسي توفير موظفين للخدمة المدنية، ولم يكن لدينا مَن نال تدريباً كافياً.
إضافة إلى هذا فإن السمة الأساسية للتعليم الإنجليزي هي قصوره في تخريج رجال يتخذون القرارات.
وفي عام 1956 كانوا يتخذون القرارات ولم يملكوا مقومات اتخاذ القرارات.
ولا يعني هذا أنهم لم يستحقوا الاستقلال، بل بالعكس أصبحوا أصحاب القرار، ولم يملكوا المقومات لتنفيذه. ونالت تلك الصفوة الحكم بقدرات محدودة في مجتمع قضاياه متشعبة.
ولم يهتم ذلك الجيل قبل الاستقلال بالتعمير، وإنما اهتموا بالتحرير أولا، وهذا شعار صحيح، لأنه لو رفع شعار التعمير ربما تأخر الاستقلال.
إضافة إلى كل هذه الأسباب لم تكن الإدارة البريطانية على استعداد للتعاطف أو الاستجابة لأية مطالب للطبقة المتعلمة، بل كانت راغبة في القضاء عليها. وكان اللجوء إلى تأييد الإدارة الأهلية جانبا من جوانب عديدة لتحقيق ذلك الغرض.
حصاد القول عند محمد عمر بشير هو أن ذلك الجيل ورث تركة مثقلة في ظروف دولية معقدة، وبدأ البحث عن النظام، والصيغة الأولى لم تنجح والثانية فشلت والثالثة لم تثبت جدواها، وهذا ما حدث في كل أفريقيا، فكل ثورة تولد ثورة وكل انقلاب يولد انقلابا آخر. والصيغة المناسبة ما زلنا نبحث عنها وعندما نصل إليها يحدث الاستقرار والنماء.
اختبار حاسم
يقول المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي السودان هو الساحة التي يجري فوقها اختبار حاسم، هل سيتمكن أبناء أفريقيا المنحدرون من أصول عربية من التعايش والتعاون مع أبناء أفريقيا المنحدرون من أصول زنجية.
لا يشغل محمد عمر بشير نفسه بمقولة توينبي كثيرا، لكنه يرى أن السودان هو الساحة، والمقومات هي وضوح الرؤية أولا، ومداخل للتنفيذ ثانياً، ورجال فاعلين لتنفيذ هذه الرؤية ثالثاً.
إضافة إلى المقومات الاقتصادية والاجتماعية وقبل توفير هذه المقومات لا بد من وجود الإرادة السياسية.
ويرجح محمد عمر بشير صعوبة أن يقوم السودان بهذا الدور بدون التعاون مع جيراننا، بل لا يمكن أن يحدث في بلد كالسودان أي تغيير بدون اعتبار لهؤلاء الجيران الذين تربطنا بهم أوثق الصلات، وفي النهاية قدرنا واحد. ومن الخطأ تماما أن نظن أن السودان وحده يستطيع أن يلعب هذا الدور.
مضمون الديمقراطية
تجربة ما بعد أكتوبر الحزبية تعتبر تجربة فاشلة بكل المقاييس تكالبت فيها الأحزاب على مقاعد الحكم، وأهملت فيها الكثير من القضايا القومية والوطنية، والساحة الآن تذخر بأحزاب كثيرة وجزء كبير منها الأحزاب التقليدية. في ظل هذه الأحزاب مع وجود العلاقات الطائفية العاطفية وقلة الوعي، وهل في الإمكان أن تقوم تجربة ديمقراطية حقيقية في وجود مثل هذه المحاذير.
مضمون الديمقراطية عند محمد عمر بشير تعني ثلاثة أشياء حوار ومشاركة واختيار.
ويعني هذا في بلد كالسودان لا بد من الاعتراف بالتعددية والحقوق الأساسية.
وفي هذا المنحى يقول محمد عمر بشير إنه: لا يهمني الشكل أو وجود عشرين حزبا أو ثلاثين حزبا، والذي يهمني هو الاتفاق على النظام الديمقراطي وفق الأسس الثلاثة. وحقيقة هناك ديمقراطية ماركسية وما يسمى بالديمقراطية الإسلامية. ليس هذا الموضوع، لأننا عندما نقول ديمقراطية لا بد أن نهدف إلى ترسيخ قيم الحوار والمشاركة والاختيار ، والنقيض لها هو حكم الفرد أو حكم مجموعة صغيرة، ولأننا نبذنا نظام الفرد ورفضنا نظام الديمقراطية البرلمانية الغربية. وهذا النبذ وذاك الرفض يلقيان على عاتقنا مهمة البحث عن الصيغة السودانية وخلق النظام السوداني المرتكز على المبادئ الثلاثة السابقة وتحتاج إلى ترسيخ هذا المفهوم الديمقراطي في السنوات القادمة، هناك من يؤمن بهذا المفهوم وهناك من لا يؤمن به.
وسواء ساد هذا الرأي أو ذاك، فلا بد من قيام النظام الذي يقدم المواطنة على الالتزام السياسي ولا يكون فيه تمييز بين جميع أهل السودان.
النظام التعليمي
المآزق الوطنية التي تعيشها بلادنا كثيرة، ودون حاجة إلى كثير من الحياد، فإن النظام التعليمي يعاني تدهورا مريعا، ويخرج مستويات وكفاءات لا تبشر بالمستوى المطلوب لإدارة حركة التنمية والعمران.
أرجع محمد عمر بشير في كتابه الثاني عن التعليم في السودان جزءا كبيرا من الأزمة التي نعيشها إلى نوعية التعليم والتدريب، وأعني بهذا أن الورثة المثقلة التي تركها الاستعمار كما ونوعا. لكنه يعتبر السلم التعليمي كان إيجابيا بمعنى إيجابية الشعار.
ولاحظ محمد عمر بشير أن هناك انفصاما بين السياسة والتطبيق. وهناك اختلافاً تاماً بين ما يقال وما يقرر وما يطبق. وقد حدث انهيار في المستويات التعليمية. وبلد كالسودان يواجه أزمات الجفاف والتصحر والغذاء وبنفس هذه الحدة يواجه أزمة التعليم.
ويقصد محمد عمر بشير بالانهيار في النظام التعليمي أن المقومات التي تعطي التعليم بعده الحقيقي غير متوفرة. ومن الخطأ أن يكون غير مطروح في أي سياسة من السياسات خطة لعلاج هذا الانهيار أو أضعف الإيمان أن تعطي الأولوية بعد الجنوب والتنمية.
ولكي يبقى هذا الوطن قويا متماسكا فلابد من المساواة وعدم التمييز بين جميع السودانيين.
تلك إفادات من وعند البروفسيور محمد عمر بشير الذي رحل عن
الدنيا في العام 1986. للبروف الرحمة والمففرة.
نقلا عن موقع المحقق
شارك المقال