الحزن وطن: قراءة في مأساة السودان على ضوء مقولة تشي جيفارا
Admin 5 فبراير، 2025 52
أ.د. فيصل فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل.
• «كنت أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقاً، لكنني لم أكن أتصور أن الحزن يمكن أن يكون وطناً نسكنه ونتكلم لغته ونحمل جنسيته.» – مقولة تُنسب إلى تشي جيفارا، وهي وإن لم تكن موثقة من أقواله، تعبر بعمق عن تجربة إنسانية مؤلمة يعيشها اليوم الشعب السوداني في ظل الحرب الدائرة منذ أبريل 2023. هذه الحرب لم تترك مجالًا للحزن كضيف عابر، بل جعلته وطنًا مفروضًا، وجنسية يحملها كل سوداني في قلبه، حيث باتت المعاناة واقعًا يوميًا، والدمار جزءًا من المشهد الحياتي، والخوف لغة مشتركة يتحدث بها الجميع.
السودان: حين يصبح الحزن هوية
لطالما كان السودان بلدًا يعج بالتنوع الثقافي والإثني، ويمتلك إرثًا حضاريًا عظيمًا، لكنه في العقود الأخيرة لم يعرف سوى الاضطرابات السياسية والحروب والنزاعات المسلحة. منذ اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، تحولت البلاد إلى مسرح صراع دامٍ أدى إلى سقوط آلاف الضحايا، وتشريد الملايين داخل وخارج الحدود.
الحزن الذي كان يُفترض أن يكون شعورًا فرديًا في مواجهة الفقد، أصبح هوية جمعية يتقاسمها السودانيون. لم يعد مجرد إحساس داخلي، بل تحول إلى لغة يومية تُترجمها الأخبار، وأصوات المدافع، وصرخات الأمهات، ونظرات الأطفال الذين فقدوا أحلامهم قبل أن تتفتح.
هذا التحول لم يكن مجرد نتيجة للحرب، بل هو امتداد لتاريخ طويل من المعاناة. فمنذ استقلاله عام 1956، لم ينعم السودان بفترات طويلة من الاستقرار، بل ظل يعاني من الانقلابات العسكرية، والصراعات الداخلية، والأزمات الاقتصادية، حتى أصبحت الحرب جزءًا من نسيج الحياة اليومية. واليوم، أصبح الحزن هوية يتوارثها السودانيون جيلًا بعد جيل.
عندما يصبح الحزن وطناً قسريًا
في الفلسفة الوجودية، يربط بعض المفكرين مفهوم «الحزن الوجودي» بفقدان الأمل، وهو ما ينطبق اليوم على السودان. ففي ظل تدهور الأوضاع الإنسانية، وانهيار المؤسسات، وتحول المدن إلى ساحات معارك، يجد المواطن السوداني نفسه داخل «وطن من الحزن»، لا يستطيع مغادرته حتى لو غادر جغرافيًا .كل من غادر السودان هربًا من أهوال الحرب، حمل معه آثار الحزن كهوية لا يمكن التخلص منها، وكأن المنفى ليس في الجغرافيا فقط، بل في الروح أيضًا. السودان الذي عرفوه لم يعد كما كان، والأمل في استعادة حياة طبيعية يبدو بعيد المنال مع استمرار الصراع.
في مخيمات اللاجئين، وعلى الحدود، وفي المدن التي لجأ إليها السودانيون داخل البلاد أو خارجها، يسود الشعور بالغربة والضياع. حتى من بقي داخل السودان، يعيش حالة من النزوح الداخلي، حيث لم تعد المنازل آمنة، ولم يعد الشعور بالاستقرار ممكنًا. إنها حالة من التيه الجماعي، حيث لم يعد الحزن مجرد مشاعر، بل صار مكانًا وزمانًا يعيشه الجميع.
لغة الحرب: حين يفقد السلام صوته
اللغة، كما قال الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين، هي مرآة الواقع. وعندما يتغير الواقع، تتغير معه اللغة. في السودان، لم تعد المفردات اليومية تدور حول الأحلام والطموحات، بل حول الدمار، النزوح، القتل، المجاعة، واللجوء. الكلمات التي كانت تدل على الحياة باتت تحيل إلى الموت، والمحادثات العادية تحولت إلى رثاء دائم للوطن.
إنه انقلاب على المعاني، حيث صار الحديث عن الحب ترفًا في زمن الرصاص، وصار الوطن مجرد ذاكرة محمولة على الأكتاف، بعدما سلبته الحرب هويته الحقيقية. وهذا ما يجعل مقولة جيفارا تنطبق تمامًا على الواقع السوداني اليوم، حيث لم يعد الحزن عاطفة عابرة، بل نظام حياة، ودستورًا، وكيانًا قائمًا بذاته.
وفي خضم كل هذا، يشعر السودانيون بأنهم فقدوا صوتهم وسط ضجيج الأسلحة. الإعلام العالمي بالكاد يتناول معاناتهم، والعالم مشغول بأزماته الأخرى. هكذا يصبح الحزن أكثر قسوة، لأنه لا يحظى حتى بالاعتراف الكامل، وكأن معاناة السودان باتت أمرًا اعتياديًا لا يستحق الاهتمام.
المقاومة في وجه الحزن
لكن، هل يعني ذلك الاستسلام؟ هل يُفرض الحزن كقدر أبدي؟ هنا يكمن التحدي الأكبر. وسط الدمار والخراب، لا يزال هناك من يرفض الاستسلام لهذا الوطن الكئيب، ولا يزال السودانيون يتمسكون ببقايا الأمل، عبر المبادرات المدنية، والإغاثة، ومحاولات الحفاظ على التعليم والثقافة رغم الحرب.
في كل حرب، هناك قصص للألم، لكن هناك أيضًا قصص للصمود. السودانيون الذين عانوا لسنوات طويلة من الاضطرابات لم يتوقفوا يومًا عن البحث عن السلام، وعن وطن لا يكون الحزن عنوانه الدائم. ربما يعبر السودان اليوم مرحلة قاتمة، لكن التاريخ علمنا أن الأوطان التي تتسع للحزن، تتسع أيضًا للأمل، مهما كان خافتًا.
النساء في السودان، على سبيل المثال، لم يتوقفن عن النضال. فحتى في أحلك الظروف، هن من يحملن عبء العناية بالأطفال، وتأمين الطعام، وإبقاء العائلة متماسكة رغم الخراب. كذلك الصحفيون السودانيون الذين، رغم المخاطر، يوثقون الحقيقة، ويحاولون إيصال أصوات الضحايا للعالم. هذا النوع من المقاومة الهادئة هو ما يبقي الأمل على قيد الحياة، رغم أنف الحرب.
أي مستقبل ينتظر السودان؟
مقولة جيفارا تطرح سؤالًا خطيرًا: هل الحزن مصير لا يمكن الفكاك منه؟ أم أن هناك دائمًا فرصة للخروج من هذا الوطن المظلم؟ السودان اليوم يقف على مفترق طرق، فإما أن يستمر في دوامة الحروب التي جعلت الحزن هو الهوية الوطنية، أو أن يجد طريقًا للخلاص، مهما كان ذلك صعبًا.
ما يحتاجه السودان ليس فقط وقف إطلاق النار، بل إعادة بناء مجتمع يشعر بالأمان، ويستعيد إنسانيته التي سلبتها الحرب. حتى ذلك الحين، سيظل الحزن وطنًا قاسيًا يسكنه السودانيون، لكنه لن يكون وطنهم الأبدي، لأنهم لم يختاروه، بل فُرض عليهم، ولأن الأمل – رغم ضعفه – لا يموت أبدًا.
شارك المقال