نظرة يسار سارة عبدالمنعم

سارة عبدالمنعم

كاتبة روائية

• أجوبُ في شوارعِ القاهرة، وحدي، إلَّا من طفلةٍ استيقظت من نومِها على فرحةِ الخروج.

كنتُ صغيرةً حين كنتُ أنامُ آخرَ الظّهيرة، في ما يُسمَّى القيلولة، من أجلِ وعدِ أمِّي أن تسمحَ لي باللعب خارجَ البيت قُبيلَ المغربِ من العصر. وأحياناً كثيرة أنامُ من أجلِ حضورِ حفلِ زفافٍ عند المساء.

كنتُ أعرفُ تماماً كيف أكسرُ الوقت، لأُعفي نفسي من وجعِ الانتظارِ الذي ظللتُ لا أحتملُ منه دقيقة. أذكر أنِّي، قُبيلَ أعوام، كنتُ أنامُ بعد المغرب إلى التاسعة مساءً؛ مزاجٌ يوميٌّ يُصيبني فيه الصُّداعُ وملامحُ الإرهاق إن لم أنَمْ تلك السويعات، ويبدأُ يومي من ذلك الصباح الليليِّ.

ما يهمّني في الأمر أنِّي أجوبُ في خيالٍ بعيد؛ هذه بلادُ الغربة، الساعةُ تمامُ الثامنةِ مساءً، والناسُ يُصبِحونَ على بعضِهم في ذاتِ الشوارع. فمن سيُقنِعُ مَن أنَّ هذا الوقت ليس كما يبدو ..؟! وحتى الشوارع التي أخافُ من أمَانيَّ فيها لا تبدو كئيبة، لكن وجهي يفتقدُ فيها حُلمَه في بلاده البعيدة. نستحقُّ كلَّ الأشياءِ الحلوة.

عادت ابتسامتي الساخرة تُنكِّلُ بوحدتي. كنتُ صامتةً عن السائق الذي يعلمُ تماماً أنِّي وحيدةٌ إلِّا من رُفقتِه، وأغنيةٍ ذاتِ لحنٍ طويلٍ قضت على ما تبقّى بيننا من تجاذبِ حديثٍ أو تعليق، إلى أن تخلَّيتُ عن عربته. لم أعلم ما كان صوتُ المغنِّي، الذي لم يُغنِّ!

السائقُ المتجاهل وجود فتاةٍ تائهةِ النّظرات، شاردةٍ، بها بضعُ دموعٍ تُواريها خلفَ نظّارةٍ زجاجيِّة ومنديلِ ورقٍ أبيض، هو ذاتُ السائقِ الذي حين تمرَّدتُ على رفضه لانتشالي من صوتٍ يقولُ له: «اذهبْ بي إلى الخرطوم الآن»، هو ذات الأحمق الذي قال في نفسه إنِّي الآن حقَّقتُ حُلمَ الملكة التي تسكنني. فقد رآني سندريلا خلفَ مقعدٍ في عربةٍ جميلةٍ يقودها حارسُ أمانِها. لكن فارسي أحمقُ جدَّاً، فما زال يسألني: «إلى أين نتَّجه؟»، رغم أنِّي أقنعتُه بكلِّ الصِّدق أن أجرَّ هذا الدّورانَ دون وجهةٍ مدفوعاً أجرُه. لم أُكترثْ له بعد أن قبضتُ عليه مبتسماً، في صوتِ هاتفِه أنثى رقيقةٌ قطعتْ علينا صوتَ اللحنِ الطويل المُمل، بصوتِ عاشقةٍ مُتغنِّجة.

رَحِمَ اللهُ حبيبي؛ كنتُ إن رَقَّ صوتي، يضحكُ ساخراً ويُخبرني أنَّه لا يليقُ بي. حتى صرتُ بصوتٍ واحدٍ لا يتبدَّل لنبرةِ دلالٍ وتغنُّج. نظراتي هي مَن تُجيدُ القولَ دائماً، لكن السائقَ الأحمقَ لم يُدرِكْ ذلك.

الثامنةُ مساءً، أجوبُ في ذاكرتي شوارعَ القاهرة، كطفلةٍ يُطل رأسُها من خلفِ زجاجِ نافذةٍ، في عربةٍ، في غربةٍ، هواؤُها العليل يُثيرُ الحنين لبلادي الساخطة ضدَّ الوقت. الثامنةُ هناك كانت في طفولتي وصباي وبواكيرِ شبابي تُسمَّى «عَيْباً!». عيبٌ أن نكون في هذا الوقت خارجَ أسوارِ الدِّيار. لا أعلمُ علاقةَ الوقت بالعيب! الأفعالُ لا تعرفُ الوقت، لكنَّها تسرقُ منه ما يُناسبُها، تختارُ الوقتَ المناسبَ فقط: ليلاً، نهاراً … ما الفرق؟! كي يُرمى وقتُ المغربِ وبعده بالعيب؟! والمدهشُ أنَّ الحفلات والسهرات تبدأ وتستمرُّ بين منتصف الليل والفجر وبعده!

مددتُ رأسي خارجَ النافذة، يُغازلُ الهواءُ شعري فأشعرُ بالحرِّية بعدما خلعتُ عنه ما يُكبَّله. نظّارتي لن تصُدَّ دمعي طويلاً، فتخلَّيتُ عنها، فعانقتِ الدموعُ وجهي، وأنا مبتسمةٌ من فعلةِ وقوفِها دون أن تحجبَ نظرَها والضوء، من هواءٍ ونسماتٍ ومسافاتٍ ترنو إليها كطفلةٍ تقودُ سيّارةَ السِّباق في مُتنزَّه المقرن العائلي، ويُصفِّق لها الحضور، وتنالُ جائزةً، ولا أحد يعلم أنّها كانت تقودُ نفسها بحرصٍ وسرعةٍ من أجل أن تنالَ الفوز بانقضاءِ الوقت سريعاً، وتميُّزِها.

لا أُجيدُ الانتظار. قلتُ للسائق ذلك، فأغلقَ صوتَ الهواء دون أن يستأذنَ النافذة. قلتُ له : «أنا لا أُجيد الانتظارَ حقَّاً». كان جوابُه غريباً وقتَها، بأنَّه يُجيد ذلك بحكمِ عمله. حمداً لله أنَّه لم يُخبرني أنَّ العَجَلةَ من الشيطان، لكنتُ أجزلتُ عليه الحديث ضدَّ ذلك الفهم، ولن أُمهله فرصةً للدفاع. لكنّه أخرسني من جديد.

نظرتُ لمرآةٍ في حقيبتي الجديدة، تُعجِبُني. بَجَّلتُ جلالتي جيداً، وشكرتُها على وقوفِها بهذا الحُسنِ ضدَّ ذاكرةٍ لا تُنسى، غيرِ محترَمة، تُطِلُّ عمداً وتَقبَعُ في الأوقات التي تستدعي منَّا السَّعادةَ بها. ذاكرةٌ وَدِدتُ أن أُشذِّبَ واقعَها المُحال، فتعودَ لي الديارُ، والرِّفاقُ، وابتسامتي، وعمري، وأهلي، وصديقي الذي تركني في الغُربة … ومات.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *