بقلم: آمنة عبدالهادي خير الله
• كان جميع من بالمنزل منهمكين بتجهيزات شهر رمضان المعظم، بدءََا بـطحن حبوب الذرة و(عواسة الآبري)، و(الويكة) والبهارات، مرورََا بتجهيز الأواني اللازمة لمائدة الأفطار، وصولََا للقهوة كما يجب أن تكون.
أما أنا فكنت أُجهز نفسي للعمل الجديد، اخترت عباءتي بعناية فائقة، والحذاء والحقيبة، وعندما حل الصباح ارتديت ثيابي، وضعت كُحل العيون ببراعتي المعتادة وأحمر الشفاه والكثير الكثير من العطر، على الرغم من أننا كعائلة نرى في ذلك تصرفََا غير مُهذب، لكني أحيانًا أرغب في الانسلاخ من ذاتي والإبحار بعيدََا عنها.
ها أنا ذا جاهزة للخروج، حملت حقيبتي وركضت نحو الباب بعد أن عانقت أُمي وقبلتها، ومضيت وكلي حماسة وأماني مُبهجة.
رأيت رسالة على (الواتس اب) محتواها (مرحبََا أنا «سيف» المُدير التنفيذي لشركة «جامد للذبادي»)، رددت التحية، وألقيت نظرة نحو صورته الشخصية، إنه يبدو شخصََا عاديََا بل وأقل، إنه من نوع الرجال المُمتلئي الوجه..
رن هاتفي فارتبكت كثيرََا، هذا هو المدير أو من كنت أظنه المُدير يُخبرني بأن المدير التنفيذي سينتظرني في المحطة بسيارة توسان رمادية اللون، قال ذلك ببساطة وكأني أعرف كيف هي السيارة التوسان من بين الكثير من السيارات في المحطة، للحظة شعرت بالحيرة، لكن سرعان ما تبدد ذلك بسرعة، قلت لنفسي لا يُهم فأنا أعرف أنها رمادية على الأقل.
وصلت للمحطة ونظرت، حسنََا هذه سيارة سوداء وأخرى بيضاء وهذه حمراء، أما تلك ف ف مهلََا رمادية..
اقتربت منها مهلََا هي فارغة أين هو هذا المدير.. هاهو ذا شخص طويل القامة، نحيل القوام لكنه شامخ، عيناه مسحوبتان للأسفل، قمحي اللون، يبدو شخصََا مُحترمًا، صافحني بقبضة ناقصة وهذا الأمر يُزعجني كثيرًا؛ بل ويشعرني بأن من أمامي شخص ضعيف… رغم علمي المُسبق بأن بعض دُعاة التشدد أولئك الذين يقفون في مُنتصف الطريق يصافحون الفتيات هكذا، رغم أن المبادئ لا تتجزأ، لا يمكنك الوقوف في المنتصف إما أن تصافح أو لا تُصافح.
صافحته وصعدت في السيارة، تبادلنا الحديث حول طبيعة العمل، وسألته عن راتبي وأخبرني أنه كثير.
حسنََا سيكون لدي الكثير من المال، وسيكون بوسعي فعل كل ما أُريده به.
كنت طوال الطريق أُفكر كيف سأصرف راتبي الأول، حسنََا سأشتري لأبي هاتفًا جديدًا، وسأشتري لأمي خاتم ذهب، ولشقيقاتي كل ما يحلمن به، كذلك سأكون كريمة مع أخي الأكبر، ولا سيما الأصغر أيم الكرم، ولن أنسى طبعََا أطفال إخوتي.
كنت أسرح بخيالي وأغوص في أُمنياتي بينما المُدير يشرح لي سير العمل ويُحفزني، مهلََا أنا سعيدة ياللهول!
وصلنا مقر العمل، لم يكن مصنعًا كما تخيلته، بل مُجرد منزل قديم في مكان بعيد، تُحيط به كلاب يبدو أنها شرسة لكني لم ألقِ بالََا لها، فحينما أكون سعيدة يُصبح من الصعب لأي أمر مهما بلغت خطورته أن يُعكر صفو مزاجي، أنا الآن سيدة الموقف، أجلس على كُرسي عاجي عالٍ للحد الذي يجعل من الصعب وصول الحُزن أو الضيق أو البؤس أو حتى الخوف إليَّ.
توقفت السيارة ونزلت منها، قابلت الأخ الأكبر لمديري أو من كنت أظنه مديري، وكان من سوء حظي أنه حضر في اللحظة التي كنت فيها متحمسة وأتحدث بسرعة، وما إن رآني حتى ضحك وقال: «هذا هو عيبها لوك لوك لوك، إنها كثيرة الكلام مُزعجة» ضحكنا جميعََا وصافحني بقوة، ومن ثم قدمني لبقية المجموعة، ثم أحضروا كراتين مملوءة بالزبادي والمِش، وقارورات من ذاك المدعو «غُباشة»، وهو عبارة عن زبادي أو رائب خفيف القوام مُحلى بالسكر وعليه ألوان إما أصفر بنكهة المانجو، أو أحمر بنكهة الفراولة. أخبروني عن الأسعار وخط السير وخريطة العمل التي يجب أن ألتزم بها، ومن ثم صعد السائق أخيرََا وتحركنا، حسنََا لدينا مُشكلة أنا لا أعرف الكثير من البقالات خاصة في الضفة الغربية، كما أنني بطبيعتي لا أحفظ الطريق، تلك مهمة شاقة بالنسبة لشخص كثير الغوص في أعماق أفكاره، شخص كثير السرحان، مزدحم بالأفكار موجود في الخيال أكثر من وجوده في الواقع، لكن لا يهم فالسائق معي وسيدلني على الطريق، وأكيد أنه يحفظه جيدََا وذلك سيفيدني بلا شك. لم يطل اطمئناني كثيرََا، حيث علمت من السائق أنه ليس من مدينة كسلا، كما أنه نازح قدم حديثََا إلى المنطقة، شعرت بألم في معدتي مهلًا يا رجل ماذا تقول؟
وكعادتي الفوضوية أخذت خريطة السير التي وضعها لي المدير وضربت بها عرض الحائط وذهبت للبقالات بطريقة تخلو من الترتيب، كنت أدخل للبقالة وأقول: مرحبََا معكم شركة زبادي «جامد» لدينا زبادي، غباشة، مِش. كنت أقول ذلك بطريقة لطيفة مع ابتسامة بريئة ونظرة واثقة، فلا يكون بوسع صاحب البقالة إلا أن يوافق على أن أنزل بضاعتي في ثلاجته وأمضي.
شارك المقال
